عندما أطلقت المستشارة الألمانية -أنجيلا ميركل- عبارتها الشهيرة : (كيف أساويكم بمن علموكم؟!) أمام حضور كبير ضم مئات القضاة والأطباء والمهندسين؛ ردا على طلب إضافة زيادة لرواتبهم شأنهم شأن *المعلمين* الحكوميين الألمان الذين حصلوا على الزيادة، لم تكن تُظهر جانبا أخلاقيا يغلب فيه تقدير واحترام المدرس قبل غيره، بل كانت تعي جيدا أن سر النجاح الاقتصادي والأمني، ونهضة الشعوب والأمم تبدأ بالنهوض بالتعليم، فبدون نهضة علمية قوية وشاملة وثابتة لا يمكن تصور أي نوع من أنواع التنمية.. لا يمكن تخيل وجود اقتصاد قوي مع تعليم هش، ولا أمن يحفظ كيان الدولة في ظل غياب التعليم، ولا تعليم مع احتقار المدرس أو البخل عليه بما يشجعه على التفرغ لأداء مهامه على الوجه الأحسن ويثبته داخل القطاع الأهم، بل هو بوابة الأمان لكل قطاع ورافعة الازدهار لكل مجال.
إن واقع التعليم بشكل عام يعكسه واقع المدرس بشكل خاص، وأي وعي لا ينطلق من تحسين وضع المدرس والاستثمار فيه هو عمى فكري وضلال في الاستثمار.
إن المتأمل الواعي لما يحدث في الكون من حولنا يدرك بجلاء ودون كبير عناء أن الدول التي جعلت التعليم رهانها الأساسي نحو التنمية الشاملة؛ اتخذت من تحسين وضع المدرس المادي والمعنوي ومن متابعة تكوينه باستمرار مطية لبلوغ أهدافها، والعكس أدق الصحيح.
من المؤسف المخجل أن نطالع في وسائل إعلامنا المختلفة امتناع نواب الشعب الذين انتدبهم لتمرير مصالحه والتقرير نيابة عنه إحجامهم عن تسهيل وتمرير ما فيه مصلحة الأمة ويصل نداه الإيجابي إلى كل مواطن في كل ركن وزاوية من ووطنا الحبيب وإيثارهم لأنفسهم عكسا لما عرف به السلف عندما وصفهم بارئهم جل وعلا في قوله : ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة).
لقد رفض النواب تمرير علاوات للمدرسين للمرة الثانية لأسباب قد لا تكون كلها جلية في فترتين زمنيتين مختلفتين معنى ومبنى وحقيقة وحكما، قد يُفهم في المرة الأولى أن الدافع من رفض تمرير هذه العلاوات هو التبعية العمياء لقرارات وتوجهات سيد القصر وصاحب الكلمة والتدخل في كل شيء؛ وإن كان ذلك التصرف يحرق وجوه من كانوا في واجهته من نواب الرفض وليت ضمائرهم أحرقتهم فكفَّروا عن سيئتهم الأولى بحسنة ثانية دخلت عليهم مكان عزهم فألحقوها بأولاهم هذه التي يجتمع الأعداء في إعابتهم عليها ويلتقي الضدان حول إنكارها ويلتحم المتنافران تنديدا بما أقدموا عليه حيالها وما اتبعوه لأنفسهم من حب للنفس وحظوتها وإن على كرامة المدرس وقيمة المدرس، وما سيقدمه لأجيال ستبغضهم ولا تكرهه أبدا..!
قد نتفق على أن الفترة الأولى التي رفض فيها النواب هذه الزيادة المقترحة للمدرسين كانت فترة رفعت فيها شعارات لانتشال التعليم لكنها سرعان ما تظهر على حقيقتها المفزعة والتي تجعلها شعارات وهمية خالية من دسم التنفيذ مع استثناءات قليلة في البنى التحتية تحديدا، مما يعني عدم وجود اهتمام حقيقي بالتعليم والتخطيط العلمي العملي لجعله على قدر المنافسة وعلى جادة التأثير، وهو الواقع الذي أفرز نوابا تصدر عنهم مواقف كتلك!؛
أما والحال قد تغير من نظام برأس قد لا يكون شغله الشاغل إصلاح التعليم وقد لا يدرك حقيقة الولوج الآمن والمؤثر إلى ذلك؛ إلى نظام برأس له حظ من العلم ونفاذ في البصيرة، وجهاز حكومي فُوِض كل منه بواسع الصلاحيات في دائرة اختصاصه، وأعلن رأس هذا الجهاز الحكومي في عرض برنامج حكومته أمام النواب عن مضاعفة ميزانيات التعليم وهي الترجمة الحقيقة والتأكيد الواضح على مضامين تعهدات الرئيس (تعهداتي) التي انتخبه الشعب عليها كعهد وميثاق بينهما، وكان في طليعتها حسب إعلان الرئيس نفسه زيادة الإنفاق على التعليم، أما والصورة الجديدة هذه؛ فلا مسوغ للرفض ولا مبرر للاعتراض.
إن هؤلاء النواب الذين امتنعوا عن قبول زيادة للمدرسين في ظل الترقب للطفرة الاقتصادية المأمولة مع استخراج الغاز في بلادنا والتي تنضاف إلى مقدرات البلاد الكثيرة، إن هؤلاء يحسبون الأمور بعقلية المغفل الذي يرى أن عدد المدرسين كثير وأن ذلك عائق أبدي يمنعهم من الحصول على أي زيادة ويبعدهم عن كل تحسين، ويحجبه ذلك عن الانتباه إلى قيمتهم الحقيقية وقيمة ما يقدمونه للمجتمع، وطبعا قيمة الإنسان ما يتقنه ويقدمه.
ليت هؤلاء النواب وهم يمتنعون عن قبول زيادات للمدرسين؛ قد يقال عنها من منظور حسابي محض؛ هزيلة، ليتهم امتنعوا عن زيادة مرروها بعد ذلك لصالحهم، وهي الزيادة التي تصل إلى تغطية زيادة بالمثل لأحسن علاوات المدرسين (الطبشور) عشر مرات، وإذا كانت الزيادة تحسينا فقط يمكن أن تغطي خمسين مدرسا مقابل هذه الزيادة لنائب واحد وتكون زيادة معتبرة!!.