بين ناصر وعزيز.. ما يبقى وما ينسى !! / محفوظ الحنفي 

خلال شهر يوليو من السنة الجارية طلب الناصريون الترخيص لهم بإحياء ذكرى ثورة 23 يوليو في قصر المؤتمرات، فقبل الطلب، واستلمت إدارة القصر مبلغ الإيجار الذي مازال عندها حتى الآن..

وبعد أيام من التلكؤ تم إفهام الجماعة بطريقة "دبلوماسية" أنه لن يمكنهم استخدام القصر؛ لأنه لا بد من موافقة رئاسة الجمهورية..

كثيرون لم يتفاجأوا بالأمر، وكانوا يتوقعون أن يعترض الرئيس السابق على ترخيص أي نشاط يقيمه الناصريون؛ فقد انتهى للتو من تقديمه مسرحيته سيئة الإخراج عن "مسيرة الوحدة الوطنية" التي لم يكن لها من مبرر سوى الرغبة الماكرة في التخلص من اسم الرمز التاريخي جمال عبد الناصر الذي اختار الموريتانيون تخليد ذكره بتسمية أكبر شارع في العاصمة باسمه..

مازال الموريتانيون جميعا يطلقون على هذا الشارع اسم الزعيم الراحل جمال؛ غير مبالين بما أقرته نزوات رئيس مسكون بكره كل ماله صلة بتاريخ وتراث وذاكرة هذا الشعب، فضلا عن نفوره الشديد من أن يكون لغيره ذكر أو مكانة أو قيمة في عقول الناس وثقافاتهم وقناعتهم الراسخة..

خرج عزيز من القصر الرئاسي دون أن يبكيه أحد، ونسيه الناس أجمعون دقائق قليلة بعيد تسليمه السلطة لخلفه المنتخب "مرشح الإجماع الوطني" السيد محمد ولد الشيخ الغزواني..

كان بإمكان عزيز أن يظل خارج ذاكرة هذا الشعب منذ لحظة خروجه من سدة الحكم؛ لولا أن حبه الظهور والسلطة دفعه للعودة سريعا إلى البلد الذي تصور أنه جزء من خالص أملاكه، والشعب الذي توهم أنه مجرد حفنة من أتباعه.

لكن إرادة الفعال لما يريد، غلبت إرادة الزعيم؛ حيث حولته من متسلط على شعبه؛ إلى متسلط على نفسه، وجعلته يسارع فور عودته لبلده إلى الاجتماع بلجنة تسيير حزب الاتحاد موجها بذلك رسالة للعموم مفادها:

"أنا مازلت هنا زعيما سياسيا خالدا لهذا البلد وأهله، وسأظل"...

لكن الردود كانت عليه أسرع، ومن أكثر من جهة، ومن أقرب مقربيه:

"رجاء توقف.. وإلا سنقف لك بالمرصاد بكل ما أوتينا من قوة"..

لم يستوعب الرجل شيئا، ولم يستطع تصديق أن "الزعيم عزيز الملهم المصلح المهاب، صاحب الأمر المجاب"؛ قد انتهى لحظة تسليمه سلطة ليست له، لم اختار الشعب أن تكون له..

ولعله منى نفسه بعد ذلك أن يكون تخليد ذكرى استقلال البلد هي فرصته ليعيد الناس إلى "رشدهم"؛ حين يأخذ مكانته على المنصة جنب خلفه الذي بالتأكيد سيشيد بسلفه، ويؤكد مرجعيته كزعيم متميز، وكمحدد للنهج الذي قررت موريتاتيا السير عليه دون رجوع..

لكن مرة أخرى يخيب أمل "الزعيم" وظنه؛ فيقرر مقاطعة التخليد والانطواء في بيته بعيدا عن الأضواء..

غير أن هذا الانطواء لا يطول.. وكيف يطول بمن تعود استدعاء الأضواء، وشغل الناس بخرجاته، ومقابلاته ومؤتمراته؟؟!!

ها هو الزعيم تعود له حرقة الشوق والحنين للظهور؛ فيقرر تنظيم مؤتمر صحفي ليذكر الناس بوجوده، وبأنه هو الزعيم الذي لا يمكن تجاوزه أو نسيانه بهذه البساطة..

لكن الرد عليه جاء أسرع من ردوده المزمعة في مؤتمره الصحفي؛ فقد نسيه حتى أصحاب الفنادق وصالات العرض والتأجير، وضاق عليه البلد الذي كان هو سيده وملكه ومالكه، يأذن فيه لمن يشاء بما يشاء، ويمنع فيه من يشاء مما يشاء، ولم يبق له فيه مكان حتى لتنظيم نقطة صحفية سوى ركن معزول أو زاوية ضيقة داخل مسكنه الخاص...

فسبحان مصرف الأمور كيف يشاء..

 

اللهم إنها ليست شماتة؛ لكنها موعظة وذكرى لأولي العقول.. خلاصتها أن الويل كل الويل؛ لمن دفعه حب التجبر والظهور للاغترار بنعمة زائلة، وطوبى لمن خلده التواضع وحب الآخرين؛ فظل مذكورا مشكورا حيا وميتا، لم ينسه أحد، ولم يواره أمد..

 

 

 

19. ديسمبر 2019 - 11:05

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا