محمد حميد الله.. راهب العلم المُتبتِّل / محمد المختار الشنقيطي

عاش الدكتور محمد حميد الله عمرا مديدا، بنفس أبيّة، وعلم غزير، وقلب واجف متبتّل. ترك الدنيا وراء ظهره، وانكبّ على العلم والتعليم وخدمة الإسلام. فكان مثالا للعالِم الموسوعي المتبحّر الذي لا يجد لفضوله المعرفي نهاية، والعابد الزاهد الذي لا تساوي الدنيا عنده نقيرا. ولد عام 1908 في حيدرآباد بجنوب الهند،

 وهو ينتسب إلى أسرة ترجع جذورها إلى قبيلة قريش. وقد هاجرت أسرته من الحجاز إلى البصرة خوفا من بطش الحجاج بن يوسف، ثم استقر المقام بسلالتها في الهند خلال القرن الثامن الهجري.

وتحدَّر من هذه الدوحة النبيلة قضاةٌ ورجال دولة، وعلماء أعلام ذاع صيتهم في الهند على مدى قرون من الحكم الإسلامي لها. وكان من آخرهم الشيخ حبيب الله أخو الدكتور محمد حميد الله الأكبر، وهو مترجم كتاب (أنساب الأشراف) للبلاذري إلى اللغة الأوردية، والشيخة أمَة العزيز، أخته الكبرى، ومترجِمة (شرح النووي على صحيح مسلم) إلى الأوردية.

لم يكن نهم محمد حميد الله للمعرفة يعرف حدودا، فقد حصل على شهادتيْ ليسانس، وشهادتيْ ماجستير، وشهادتيْ دكتوراه، وتعلم حوالي عشرين لغة، منها العربية والأوردية والفارسية والتركية واللاتينية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والإيطالية والروسية والبولونية والدانمركية والسويدية والفنلندية. وكان من آخر ما تعلم من اللغات اللغة التايلندية التي درسها بعدما تجاوز عمره الثمانين. وبعد حصوله على كل هذه الشهادات العلمية سافر إلى موسكو لدراسة اللغة الروسية، وسعى إلى الحصول على شهادة الدكتوراه من جامعتها، لولا أن ظروف الحرب العالمية الثانية حرمته من ذلك. فكَـرَّ إلى المدينة المنورة ولزم شيخ قرائها حسن بن إبراهيم الشاعر حتى حصل منه على إجازة في القرآن الكريم كانت أثمن شهاداته وأحبّها إلى قلبه..

تلقى محمد حميد الله تعليمه الإسلامي الأول باللغة الأوردية في (دار العلوم الشرقية)، وفيها ألمَّ باللغات العربية والفارسية والانكليزية. ثم التحق عام 1919 بـ(المدرسة النظامية) إحدى أعرق المؤسسات العلمية الإسلامية في الهند، وحصل منها على ليسانس عام 1923. وبعد ذلك بعام التحق بـ(الجامعة العثمانية) التي أسسها الأمير عثمان علي خان في حيدرآباد عام 1918، وحصل منها على ليسانس أخرى عام 1928 وهو في العشرين من العمر. ومن نفس (الجامعة العثمانية) حصل محمد حميد الله على شهادتيْ الماجستير: الأولى في الدراسات الإسلامية، والثانية في القانون الدولي. وفي عام 1932 ابتعثت الجامعة العثمانية طالبها اللامع ليطّلع على المخطوطات الإسلامية في تركيا ومصر وسوريا والسعودية.

ومن اسطنبول استدعاه المستشرق الألماني (فريتزْ كرْنِكو) لاستكمال دراسته العليا في جامعة (بونْ)، فحصل منها على شهادة دكتوراه عن موضوع (مبدأ الحياد في القانون الدولي الإسلامي)، ودرّس فيها اللغتين العربية والأوردية لعامين. وفي العام 1934 التحق بجامعة (السوربون) الفرنسية، فحصل منها على شهادته الثانية للدكتوراه عن رسالته المعنونة: (الدبلوماسية الإسلامية في العصر النبوي والخلافة الراشدة) وهي التي أصبحتْ فيما بعد كتابَه الأشهر باللغة العربية (مجموعة الوثائق السياسية للعصر النبوي والخلافة الراشدة). وعاد محمد حميد الله إلى حيدرآباد عام 1935 حاملا معه علما واسعا، وخبرة بالعالم، وتمرسا بالحياة، على حداثة سنه يومذاك. فعمل محاضرا في قسم الدراسات الإسلامية بالجامعة العثمانية بحيدرآباد، وعميدا لكلية القانون بها إلى حدود العام 1948.

وكان محمد حميد الله من أشد المدافعين عن استقلال إمارة حيدرآباد الإسلامية عن دولة الهند، وهي إمارة لعبت دورا تاريخيا مجيدا في تاريخ المسلمين، وكانت مركزا مزدهرا من مراكز الحضارة الإسلامية في القارة الهندية، فحريٌّ بها أن تبقى منارة إسلامية. فسافر إلى الأمم المتحدة عام 1948 ضمن وفد دبلوماسي يسعى إلى الاعتراف باستقلال الإمارة بعد استقلال الهند عن التاج البريطاني، ورفْض الإمارة الانضمام إليها. وحينما اجتاحت القوات الهندية الإمارة وفشل الوفد في الحصول على الاعتراف باستقلالها قرر محمد حميد الله بإباء أن لا تطأ قدمه أرض الهند بعدها، وهو قرار التزم به طول عمره المديد، رغم تجواله في أرجاء الأرض.

عاش العلامة حميد الله في فرنسا مدة مديدة ناهزت نصف القرن (1948-1996) احتفظ خلالها بجنسيته الحيدرآبادية، ورفض عرضا من الحكومة الفرنسية ومن حكومات دول إسلامية عدة بمنحه الجنسية، وفاءً لوطنه المغدور حيدرآباد. واكتفى بوثيقة إقامة في فرنسا حملها معه أكثر من نصف قرن.

ولم يترك حميد الله فرنسا إلا بعد أن أعياه رهَق السنين، واستنزف عمرَه البحث العلمي الدائب والعملُ الدائم لخدمة الإسلام. فقد ألحّت عليه حفيدة أخيه السيدة المفضالة (سديدة عطاء الله) المقيمة في الولايات المتحدة بمصاحبتها إلى هناك حرصا على صحته المنهَكة ورحمة بضعفه وكبره، فقبل توسُّلاتِها بعد لَأْيٍ عام 1996، وأقام معها سنوات عمره الأخيرة، حتى رحل بنفس مطمئنة عن هذه الدنيا، في مدينة جاكسونفيل بولاية فلوريدا الأميركية عام 2002، مخلفا وراءه ذكرا عطِرا وأثرا لا يمَّحي. وقد ذكرتْ ابنة أخيه البارّة سديدة عطاء الله في عدد خاص من مجلة Impact International مخصص لرثاء محمد حميد الله، أنه كان يمازحها شفقةً بها فيقول: "سأُفاوض ملَك الموت بكل ما أستطيع من حُجّة، لكي لا يقبض روحي بحضورك".. وقد تحققتْ أمنيته، فتوفاه الله في نومه ضحًى وهي غائبة عن البيت.

كان محمد حميد الله متواضعا بَرًّا موطَّأ الأكناف، حتى إنه كان يخرج مع الشباب المسلم في المخيمات الثقافية بفرنسا –وهو أستاذ بجامعة السوربون- فيغسل آنية الطعام بيده، ويجلس معهم على الأرض كواحد منهم، على مكانته العظيمة في العلم والشهرة. وحينما دخل (دار المصنِّفين) –إحدى أشهر المؤسسات العلمية بالقارة الهندية- دخلها حافيَ القدمين، وعلَّل ذلك بأنه يكره أن يدخل منتعلا إلى دار أُلِّف فيها كتابٌ في السيرة النبوية، يقصد كتاب (سيرة النبي صلى الله عليه وسلم) للعلامة سليمان الندوي في سبعة مجلدات. وكان شديد الزهد والاحتساب، حتى إنه عندما عُرض عليه الترشح لجائزة الملك فيصل رفض بشدة، وقال: "أنا لم أكتب ما كتبت إلا من أجل الله عز وجل، فلا تفسدوا علي ديني."

يعتبر الدكتور محمد حميد الله من العلماء المكثرين من التأليف، كيف لا وقدْ أوقف حياته الطويلة العريضة على البحث العلمي والكتابة، حتى إنه عاش عزَبًا طيلة عمره، فكان حريًّا بالشيخ الحافظ عبد الفتاح أبي غُدَّة أن يترجم له في كتابه الفريد في بابه: (العلماء العُزَّاب الذين آثروا العلم على الزواج). وقد ألّف حميد الله وحقّق عشرات المجلدات، وكتب حوالي ألفِ مقال، واشترك في كتابة وتحرير عدد من الموسوعات، منها (دائرة المعارف الإسلامية) باللغة الأوردية، و(الأطلس الكبير للأديان) باللغة الفرنسية.

جمع حميد الله بين العمق والامتداد فيما كتب: فقد أعانتْه معرفته الموسوعية على الكتابة في علوم إسلامية شتى، ومكّنه دأبُه وجِدُّه العلمي من تقديم أعمال علمية تأسيسية في بابها:

  ففي خدمة القرآن الكريم أسهم بترجمته البديعة للكتاب العزيز إلى اللغة الفرنسية، وقدَّم لها بمقدمة ضافية في علوم القرآن وتاريخه. ولم تكن توجد ترجمة ذات قيمة للقرآن الكريم إلى هذه اللغة المهمة، إلا ما كان من أعمال استشراقية شابها التحيز وضعف التذوق للغة القرآن. وقد اشتهرت ْترجمة حميد الله، وانتشرتْ بين المسلمين الناطقين بالفرنسية في فرنسا وكندا وغرب إفريقيا، ثم اعتمدها مجمعُ فهد لطباعة المصحف الشريف، وطبَعها بأعداد وفيرة. كما تتبَّع حميد الله في كتابه (القرآن بكل لسان) تاريخ ترجمة القرآن الكريم، وقدّم جردا لترجمات الكتاب الكريم إلى حوالي مائة وخمسين لغة.

  وفي علوم الحديث الشريف كشف حميد الله النقاب عن أقدم نص مسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صحيفة التابعي همام بن منبّه الصنعاني (ت 101 هـ)، التي رواها عن الصحابي أبي هريرة رضي الله عنه. فبرهن حميد الله بذلك - بخلاف ما هو شائع من الرأي- على أن تدوين الحديث النبوي بدأ في حياة الصحابة رضي الله عنهم، وهو ما يزيد الثقة في تاريخ السنة وإسنادها. كما ألف حميد الله كتابا عن ترجمات المستشرقين لصحيح البخاري، تتبَّع فيه الخلل في تلك الترجمات، وصححها بعقل منصف وقلب مؤمن.

  وفي السيرة النبوية حقق محمد حميد الله سيرة ابن إسحاق (ت 151 هـ)، وقد وأعاد هذا النص العتيق إلى خضم الحياة العلمية الإسلامية، بعد أن أهمله الناس اعتمادا على سيرة ابن هشام (ت 213 هـ) المتأخرة عنها. كما ألف الدكتور حميد الله كتابا من أمتع وأجمع ما كُتب في السيرة النبوية، وأحسنه حبكة وترتيبا، وهو كتابه (رسول الإسلام: حياته وآثاره) Le Prophète de l’Islam: Sa vie, son oeuvre في مجلدين، ولم يُترجم هذا الكتاب إلى الغة العربية في حدود علمي حتى الآن. ومن إسهاماته في السيرة النبوية أيضا كتاب (نظام التربية والتعليم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم) وكتاب (ميادين الحرب في العصر النبوي).

  وفي مجال الفقه السياسي ألف حميد الله عدة كتب أهمها ثلاثة، هي كتاب (مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة) وهو مصدر قيم وكنز ثمين من الوثائق الأصلية التي لا يستغني عنه أي باحث جاد في الفقه السياسي الإسلامي والتأصيل للعلاقات السياسية بين المسلمين وغير المسلمين. ثم كتاب (أول دستور مكتوب في العالم) the First Written-Constitution in the World وهو تحقيق لوثيقة دستور المدينة في العصر النبوي، وترجمة لها إلى اللغة الإنكليزية، مع مقدمة ضافية بيَّن فيها المؤلف أسبقية الإسلام إلى فكرة العقد الاجتماعي الذي يؤسس لبناء السلطة وأدائها على أساس التعاقد والتراضي بين الحاكم والمحكوم، قبل عصر جون هوبز وجان جاك روسو بقرون متطاولة. ثم كان عمله الثالث المتميز في الفقه السياسي هو دراسته المعنونة (هل للقانون الروماني تأثير على الفقه الإسلامي)، وفيها بيَّن أصالة الفقه الإسلامي، وردَّ ردًّا مُفحِما على المستشرقين الذي زعموا استمداده من القانون الروماني.

  وفي مجال تحقيق كتب التراث العربي حقق حميد الله عددا كبيرا من النصوص التراثية القيمة منها: (السير الكبير) لمحمد الشيباني، و(كتاب الردة) للواقدي، و(أنساب الأشراف) للبلاذري، و(كتاب الأنواء) لابن قتيبية، و(كتاب الذخائر والتحف) للغساني، و(كتاب السرد والفرد) للقزويني، و(كتاب النبات) للدينوري... وغيرها كثير.

رحم الله محمد حميد الله.. راهب العلم المتبتِّل.

 

 

8. نوفمبر 2012 - 10:59

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا