هل نبتهل إلى الله تعالى أن ينعم بطفرة وراثية تجعلنا أصحاب لون واحد ؟!!
أم نسعى لانتشار الإصابة بعمى الألوان لكي نعيش فيما بيننا بسلام ؟ !!
إن اختلاف اللون مسألة طبيعية في الكائنات كلها لا تقتضي تنافرا ولا اختلافا ، قال تعالى :{ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } [فاطر: 27، 28]
فلماذا نجعل من اختلاف الواننا عقبة أمام الوحدة والتعايش ؟
لماذا يظل هذا التمييز قائما ؟
لماذا يتم تقييم الناس وتصنيفهم وتحديد مكانتهم الاجتماعية على أساس لون البشرة ؟
و إذا كان التمييز الاجتماعي والتفاضل على أساس لون البشرة يتنافى مع معتقدانا وقيمنا الاسلامية ..
فلماذا نسمح لعاداتنا وإعلامنا وتعليمنا أن يكون مصدرا لنشر الأفكار التي تمجد لون عرق وتمدحه ، وتنتقص آخر وتشمئز منه ؟
إن أصحاب الأفكار العنصرية استغلوا الفروق الجسدية بين الشعوب وروجوا للزعم بأن أفراد الجماعات المختلفة تولد معهم اختلافات في الذكاء والمواهب والقيم !
وجعلوا الجنس مبررا للتمييز ، فاستعلت بعض الجماعات على بعضها !!
وكان ذلك سببا في الكثير من الظلم والاضطهاد !!
لقد كان الرومان يعتبرون القبائل الجرمانية جنسا من الهمج لا يكادون يعدّون من البشر!
وكذلك الأوروبيون الذين استعمروا أمريكا اعتبروا أنفسهم أرقى من السكان الأصليين واعتبروا ذلك مبررا لإبادتهم!
إن الأمم تشقى وتسوء حالتها بقدر ما ينتشر فيها من خلل فكري، يتحول الى عادة سائدة ،أو سلوك مرضي، أو قانون جائر .!
إن نقاء الضمير من الأحقاد ، وسلامة العقول من الأفكار الملوثة ، هو الطريق الى وحدة المجتمع واستقراره وتعايشه فيما بينه بسلام .
لقد فسر النبي عليه الصلاة والسلام الكبر فقال : "الكبر : بطر الحق، وغمط الناس!" ، غمط الناس : أي ازدراؤهم !!
ولا كبر أعظم من ازدراء إنسان لمجرد أن لونه أسود !!!
إنه ليس كبرا فحسب ..بل هو كبر مشحون بالجهل !!
وما أكثر المتكبرين الجاهلين في مجتمعنا !!
من حقك أيها الأبيض ألا تشعر بالغبطة تجاه أخيك الأسود ..
لكن ليس من حقك ازدراء أصحاب البشرة السوداء ورميهم بنظرات الدونية ..!
انها نظرات جاهلية ..موغلة في الطباع الجاهلية !!
الجاهلية : مجموعة من العادات.. والمسلكيات السيئة، التي كانت سائدة عند العرب، ولما جاء النبي صلى الله عليه وسلم حاربها وسماها خصالا جاهلية ..
ومن هذه الخصال : ان العرب كانوا يحتقرون أصحاب البشرة السوداء، وينظرون اليهم بالكثير من الازدراء !..
بل ان السواد كان مرتبطا في أذهانهم بالرق والعبودية ،لأن اصحابه غالبا ما يكونون من العبيد ..
وقد كان ذلك هو السبب في تسمية شيبة جد النبي صلى الله عليه وسلم باسم "عبد المطلب"
حيث كان عمه المطلب بن عبد مناف قد جاء به من المدينة وهو صغير من عند أخواله بني النجار، فلما رآه الناس أسود من السفر ظنوا أنه عبد مملوك للمطلب، فقالوا: "هذا عبد المطلب" !!
وحتى من لم يكونوا عبيدا من أصحاب البشرة السوداء فقد كان لون بشرتهم سببا في نقص مكانتهم في المجتمع العربي الجاهلي !
ولهذا لم يشتهر عند العرب ولم تعلوا مكانته من اصحاب البشرة السوداء الا مجموعة قليلة من الهجناء سموا "أغربة العرب" لأنهم أخذوا السواد من أمهاتهم ، منهم : عنترة العبسي، وأمه زبيبة،..
وخفاف بن ندبة وهو بن عمير الشريديّ، من بني سلمى، وأمه ندبة، وإليها ينسب، وهو ابن عم خنساء بنت عمرو بن الشريد الشاعرة، وقد ادرك الاسلام وأسلم وشهد فتح مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم هو القائل:
كِلاَنَا يُسَوِّدُهُ قَوْمُهُ ... على ذلِكَ النَّسَبِ المُظْلِمِ
يعني السواد .
ومنهم "السليك بن سلكة"، وأمه سلكة، وإليها ينسب.. وكان أدل الناس بالأرض، ويضرب به المثل في سرعة العدو، وفي ذلك يقول صاحب الشمقمقية : واعد على رجلي سليك هربا من كل خنبق وكل سهوق
ومنهم تأبط شرًّا وهومن قبيلة فهم واسمه ثابت بن جابر بن سفيان و أمة حبشية سوداء، ورث عنها سوادها،
ومنهم الشنفرى، وهو من أزد اليمن، ومعنى "الشنفرى" : غليظ الشفاه ،ويدل ذلك على أن لديه طرازا جينيا حبشيا، وذلك من قبل أمه؛ فقد كانت حبشية، وقد ورث عنها سوادها؛..
لم يكن من السهل أن يكون لأصحاب البشرة السوداء مكانة مرموقة في المجتمع العربي زمن الجاهلية ، لكن هؤلاء انتزعوا مكانتهم بالشعر والنجدة والفروسية ..
وقد كان عنترة في بعض اشعاره يجمع بين بطولاته ونسبه وخؤولته من السودان.. ربما كان يسعى من خلال ذلك الى معالجة هذه العقلية العربية التي تعتبر سواد البشرة نقصا ودونية، حيث يقول:
إني لتعرف في الحروب مواطني ... في آل عبس مشهدي وفعالي
منهم أبي حقًّا فهم لي والد ... والأم من حام فهم أخوالي
وتارة يفخر بأمه فيقول :
وأَنا ابْنُ سوْداءِ الجبين كأَنَّها ضَبُعٌ تَرعْرَع في رُسومِ المنْزل
الساق منها مثلُ ساق نعامة ٍ والشَّعرُ منها مثْلُ حَبِّ الفُلْفُل
والثغر من تحتِ اللثام كأنه برْقٌ تلأْلأْ في الظّلامَ المُسدَل
وتارة يفخر بسواده قائلا :
ولما أوقدوا نارَ المنايا بأَطْرافِ المثقَّفَة العوالي
طفاها أسودٌ منْ آل عبس بأَبْيضَ صارمٍ حَسَنِ الصِقّال.
لكن العادة الجاهلية في انتقاص أهل السواد استمرت لدى العرب حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم، فحاربها..، وأكد على ذلك في خطبته في حجة الوداع بقوله : "أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد ،إلا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى" رواه أحمد في المسند .
وكان عليه الصلاة والسلام يغضب حينما يرى من اصحابه تأثرا بهذه العادة ويعتبر ذلك عودة الى الاخلاق الجاهلية..
أخرج الإمام البخاري من حديث المعرور بن سويد عن ابي ذر قال : إني سببت رجلا فعيرته بأمه(وفي رواية انه قال له : يا ابن السوداء !) , فقال لي النبي ( " أعيرته بأمه " ؟ إنك امرؤ فيك جاهلية!!).
ولما دخل مكة فاتحا أمر بلالا ان يصعد على الكعبة للأذان،.. وكان في ذلك تحطيم للعقلية الجاهلية التي ترفض أي شرف لأصحاب البشرة السوداء ..
مشهد لم يكن يتخيله أشراف مكة من قريش : الكعبة.. أشرف بقعة عند العرب ..يعلوا ظهرها عبد حبشي أسود !!
وأخذ بعضهم يتمتم في ذلك الموقف الرهيب : ما لهذا العبد الأسود ينعق كالغراب على الكعبة!!.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يظهر مزيدا من الاهتمام بأصحابه السود ، ويسأل عنهم اكثر من السؤال عن غيرهم ،ومن ذلك ما رواه أحمد في المسند عن أنس : "أن أسود كان ينظف المسجد ، فمات فدفن ليلا وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبر ، فقال : انطلقوا إلى قبره ، فانطلقوا إلى قبره ، فقال : إن هذه القبور ممتلئة على أهلها ، ظلمة ، وإن الله ينورها بصلاتي عليها ، فأتى القبر فصلى عليه ، وقال رجل من الأنصار : يا رسول الله ، إن أخي مات ، ولم تصل عليه ، قال : فأين قبره ؟ فأخبره ، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأنصاري".
فأنت ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن هذا الرجل الأسود ، ولم يسأل عن الأنصاري !!
ويمدح النبي صلى الله عليه وسلم المرأة السوداء إذا كانت على خلق ودين فيقول :
"ولأمة خرماء سوداء ذات دين أفضل" رواه ابن ماجه من حديث ابن عمر.
لم يتوقف الامر عند هذا الحد بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قضى على كل ما تبقى في النفوس من احتقار لأصحاب البشرة السوداء، حين أعطاهم الحق في تولي الإمارة والامامة العظمى فقال : "اسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد حبشي" . و العلماء لم يستسيغوا ان يكون وصف العبد مقصودا في الحديث ، ولذلك حاولوا تأويله بعدة تأويلات :
منها أنه تمثيل بما لا يمكن أن يقع من باب المبالغة .
قال ابن حجر :
(وقال الخطابي قد يضرب المثل بما لا يقع في الوجود يعني وهذا من ذاك اطلق العبد الحبشي مبالغة في الأمر بالطاعة وان كان لا يتصور شرعا ان يلي ذلك) فتح الباري - ابن حجر (13/ 122).
وقال ابن رجب : (وقد قيل : إنَّ العبدَ الحبشيَّ إنَّما ذكر على وجه ضرب المثل وإنْ لم يصحَّ وقوعُه ، كما قال : (( مَن بنى مسجداً و لو كَمَفْحَصِ قطاة )) جامع العلوم والحكم محقق (30/ 15)
والظاهر ان الوصف المعتبر في الحديث هو وصف السواد لا وصف العبودية ، ويتأكد ذلك من عدة أوجه :
الوجه الاول : أنه ورد في بعض روايات الحديث : (وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة )
الوجه الثاني : أنهم كانوا يطلقون وصف العبد على كل ذي بشرة سوداء ، ولا يزال هذا العرف اللغوي موجودا اليوم عند بعض الناس كالليبيين مثلا .
الوجه الثالث : نقل بعض أهل العلم الاجماع على أن العبد لا تنعقد له الامامة العظمى ، فتعين تأويل الحديث بما ذكرنا .
قال ابن بطال:(أجمعت الأمة على أنه لا يجوز أن تكون الإمامة فى العبيد) شرح صحيح البخارى ـ لابن بطال (8/ 215)
فهذه الاوجه كلها دالة على ان السواد هو الوصف المقصود في قوله صلى الله عليه وسلم : "وإن تأمر عليكم عبد حبشي" وانه صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك من أجل القضاء على تلك العقلية الجاهلية التي تقصي أصحاب البشرة السوداء.
******
وانسجاما مع هذه التوجيهات الشرعية بدأت تلك النظرة الجاهلية تتغير وولدت نظرة أكثر تقديرا لأصحاب البشرة السوداء
بل أصبح من بينهم قادة كبار وعلماء عظام !
لقد كان الوفد الذي ارسله عمرو بن العاص الى المقوقس برئاسة عبادة ابن الصامت -رضي الله عنه-، وكان أسود اللون ، فغضب المقوقس لسواده ، وطلب تقديم غيره، فقال الوفد : " إنه أفضلنا رأيًا وعلمًا وهو سيدنا وخيرنا " .
وفي عصر التابعين.. يبرز عطاء ابن أبي رباح الحبشي ،فلا يمنعه سواد لونه من تصدر قائمة العلماء في زمانه، فقد كانت الحلقة في الفتيا بمكة في المسجد الحرام لابن عباس، وكانت بعده لعطاء..
بل إن عبد الملك بن مروان أمر بالنداء في موسم الحج: أن لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح ..
وهذا سعيد بن جبير.. تابعي جليل ،وعالم نحرير، حبشي الأصل.. كان أعلم أهل زمانه على الاطلاق!
أخذ العلم عن عبد الله بن عباس وابن عمر.
وكان ابن عباس، إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه، يقول : أتسألونني وفيكم ابن أم دهماء ؟
قال الإمام أحمد بن حنبل: قتل الحجاج سعيدا وما على وجه الارض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه!
ويأتينا أبو رجاء : يزيد بن أبي حبيب من بلاد النوبة (السودان حاليا).. وكان حجة، حافظا للحديث، فيتصدى للإفتاء بمصر ،ويكون أول من يظهر بها علوم الدين والفقه..
قال الليث: يزيد عالمنا وسيدنا.
وهذا نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم.. صاحب القراءة المعروفة، كان أسود.. شديد السواد، جميل الوجه..
أصله من أصبهان.. انتهت إليه رياسة القراءة في المدينة، وأقرأ الناس نيفا وسبعين سنة !
ومن أصحاب البشرة السوداء من هو مرجع في اللغة والفصاحة مثل عكيمٌ الحبشى، وكان أفصح من العجَّاج!
وكان علماء أهل الشام يأخذون عنه ..
وهكذا الإمام الحنفي فخر الدين الزيلعي صاحب كتاب "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق"..
والحافظ جمال الدين أبي محمد عبد الله بن يوسف الزيلعي (762هـ) مؤلف كتاب "نصب الراية"، وكلاهما أسود وينسبان الى "زيلع" من بلاد الحبشة.
ثم صار من بين أصحاب البشرة السوداء أعيان وأشراف وأمراء وأبناء أمراء :
فهذا علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق أمه حبشية: وهو ثامن الائمة الاثني عشر عند الامامية، ومن أجلاء السادة أهل البيت ،أحبه المأمون، فعهد إليه بالخلافة من بعده، وزوجه ابنته، وضرب اسمه على الدينار والدرهم,
وهذا محمد ابن الحنفية ابوه علي ابن ابي طالب وأمه خولة بنت جعفر الحنفية، كان واسع العلم، ورعا، أسود اللون وكان المختار الثقفي يدعو الناس إلى إمامته، ويزعم أنه المهدي. و زعمت فرقة الكيسانية أنه لم يمت وأنه مقيم برضوى.
وابن شكلة :إبراهيم بن محمد المهدي الامير، أخو هارون الرشيد، كان أسود..حالك اللون، وكان وافر الفضل، سخي الكف وأمه جارية سوداء اسمها (شكلة) نسبه إليها خصومه.
وهو القائل :
ليس يزري السواد بالرجل الشهم ولا بالفتى الأريب الأديب
إن يكن للسواد منك نصيب ... فبياض الأخلاق منك نصيبي
بل إن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم على وجه المبالغة صار حقيقة واقعة !
فصار الرجل الشديد السواد هو الحاكم المطاع، والآمر الناهي في بعض البقاع التي يسكنها البيض !
ومن أمثلة ذلك كافور الأخشيدي، الذي حكم مصر والشام في القرن الرابع الهجري، وكانت مدة ملكه اثنتين وعشرين سنة.. وكان له من البسطة ونفوذ الأمر وشهرة الذكر ما يتجاوز الوصف!
وفي عالم الأدب برزت أسماء لشعراء سود ذاع صيتهم واشتهر ذكرهم كان من بينهم :
نصيب بن رباح، : شاعر فحل، مقدم في النسيب والمدائح، وكان يعد مع جرير وكثير عزة.
له شهرة ذائعة، ومكانة عالية عند الامراء والعامة، أغرته بالامتناع عن تزويج بناته من الموالي!
ومنهم الشاعر الحَيقُطان وهو القائل :
لئن كنتُ جعد الرَّأسِ والجلدُ فاحمٌ ... فإنَّي لَسَبْطُ الكفِّ والعرضُ أزهر
وإنَّ سواد اللَّون ليس بضائِري ... إذا كنتُ يوم الروع بالسَّيف أخطرُ
ومنهم : سحيم، كان عبدا نوبيا أعجمي الاصل، شاعر مجيد مخضرم أدرك الاسلام وأسلم عرف بغزله الصريح وتشبيبهه ببنات أسياده.
وهو القائل في سواده :
وما ضر أثوابي سوادي وإنني ... لكا لمسك لا يسلو عن المسك ذائقه
كسيت قميصاً ذا سواد وتحته ... قميص من الاحسان بيض بنائقه
ومنهم : سنيح بن رباح، وهو القائل في مدح أبناء عمومته من الزنج :
والزِّنج لو لاقيتهم في صفِّهم ... لاقيت ثمَّ جحاجحاً أبطالا
أبناء كلِّ نجيبةٍ لنجيبةٍ ... أسدٌ تربِّب عندها الإشبالا
ولم يعد غريبا أن تجد في كتابات الأدباء من يسطرون بالمداد محاسن اهل السواد، ويذكرون ما لهم من أمجاد..
يكتب الجاحظ في بيان محاسن السودان فيقول :
(والناس مجمعون على أنه ليس في الأرض أمّةٌ السخاء فيها أعمُّ، وعليها أغلب من الزِّنج..
وليس في الأرض أمةٌ في شدة الأبدان وقوة الأسر أعمُّ منهم فيهما. وإن الرجل ليرفع الحجر الثقيل الذي تعجز عنه الجماعة من الأعراب وغيرهم. وهم شجعاءٌ أشداء الأبدان أسخياء. وهذه هي خصال الشرف.
والزنجي مع حسن الخلق وقلة الأذى، لا تراه أبداً إلا طيب النفس، ضحوك السّنّ، حسن الظّنّ. وهذا هو الشرف) الرسائل (ص: 43)
..
*****
وبما أن الأمور الدينية والسياسية والاجتماعية متداخلة ويؤثر بعضها في بعض فقد انتقل الأمر من تغير في العقلية الى تغير في الذوق الجمالي ! فتولد ذوق جديد يرفض حصر الجمال في البياض، فكان من الشعراء من تغنى بجمال المرأة السوداء وفتن به أيما فتنة !
يقول شريف الرضي في تفضيل المرأة السوداء :
أحبك يا لون السواد فإنني ... رأيتك في العينين والقلب توأما
وما كان سهم العين لولا سوادها ... ليبلغ حبات القلوب إذا رمى
وهكذا قول ابن الرومي :
يفترُّ ذاك السوادُ عن يققٍ ... من ثغرها كاللآلئ العتقِ
وبعض الشعراء يرى برودة ذوق عند من يحسبون الجمال محصورا في البياض !..ويشبه الجميلة السوداء بشامة على وجه أغر فيقول :
يكون الخال في خد قبيح ... فيكسوه الملاحة والجمالا
فكيف يلام ذو عشق على من ... يراها كلها في الخد خالا
وعرف عن المصريين أكثر من غيرهم ولعهم بالمرأة السمراء ، فهذا ابن لبانة المصري تلعب الفتنة بفؤاده فيبدع قائلا : سمراء تطعن بالقوام وربما ** نظرت فصالت بيضها مع سودها
وقفت عليها لوعتي وصبابتي ** ومدامعي تجري على معهودها
و ابن رشيق يرى في جمال السوداء ما يعطيها الحق في ان تفخر على أختها البيضاء فيخاطبها قائلا :
تيهي على البيض واستطيلي ... تيه شباب على مشيب
ولا يرعك اسوداد لون ... كمقلة الشادن الربيب
وينافس أبو حاتم المدني في هذا المضمار فيعرب عن ذائقة قل نظيرها، ويفضل الحسناء السمراء على الدرية البيضاء فيقول:
ومن يك معجبا ببنات كسرى ... فإني معجبا ببنات حام
وكأنما يعترض آخر على الذوق السائد في زماننا فيقول :
لا أعشق الأبيض المنفوخ من سمن ... لكنني أعشق السمر المهازيل !!
وقد كان الفرزدق خبر النساء، ولم يجد أفضل من المرأة السوداء، ولذلك تزوج أم مكّيّة الزنجية وأقام عليها واكتفى بها، وله في ذلك أبيات يقول في مقدمتها : يا رُبَّ خوْدٍ من بنات الزِّنج ....
وقد لا نستغرب من دخول السواد الى ساحة الغزل والتشبيب، حين نعلم ان اللون الاسود يمتاز بكونه ملفتا للانتباه، ويبعث على الراحة النفسية ويجعل ما حوله من الالوان اكثر اشراقا، كما أن للسواد علاقة وثيقة بالجمال ينبيء بها سواد الشعر، وكحل العين، وجاذبية الخال.
**********
ومع كل هذا التغير الحاصل في نظرة العرب الى اصحاب البشرة السوداء، فقد بقيت لديهم رواسب ومخلفات من عقليتهم الجاهلية تمثلت في بعض الأمور منها :
-ترويج بعض المؤرخين للفكرة القائلة بأن السبب في وجود البشرة السمراء هو دعوة نوح على ابنه حام !!
يقول ابن الأثير :
(وإنما كان السواد في نسل حام لأن نوحاً نام فانكشفت سوأته فرآها حام فلم يغطها ورآها سام ويافث فألقيا عليه ثوباً، فلما استيقظ علم ما صنع حام وإخوته فدعا عليهم.) الكامل في التاريخ (1/ 25)
ويقول المسعودي :
(حام بن نوح عليه السلام يقول أهل الاثر إن نوحا عليه السلام دعا عليه بتشويه الوجه وسواده، وأن يكون ولده عبيدا لولد سام،فولد له بعد كنعان كوش، فكان أسود،) أخبار الزمان (ص: 86)
هكذا قال غير واحد من المؤرخين !!
وأصعب ما في دراسة التاريخ أنك لن تميز بين سقيمه وسليمه إلا بقرائن وأدلة وبحث مضن، لا يختلف عن بحث علماء الآثار وتنقيبهم عن التحف الأثرية !!
لكن الزعم بأن السبب في سواد بشرة الانسان يعود الى دعوة نوح على ابنه حام زعم لا يثبته التاريخ، ولا تؤيده شواهد الطبيعة، وحقائق العلم .
إنها ترهات من اباطيل القصاص.. ترسبت في اذهان العامة، وتسللت إلى مصنفات التاريخ، فدونوها على اساس أنها حقائق تاريخية توارثتها الأجيال !!
وقد تصدى ابن خلدون للمروجين لهذه الاسطورة وبين زيفها فقال :
(وقد توهم بعض النسابين ممن لا علم لديه بطبائع الكائنات أن السودان (و)هم ولد حام بن نوح اختصوا بلون السواد لدعوة كانت عليه من أبيه ظهر أثرها في لونه وفيما جعل الله من الرق في عقبه، وينقلون في ذلك حكاية من خرافات القصاص! ودعاء نوح على ابنه حام قد وقع في التوراة، وليس فيه ذكر السواد، وإنما دعا عليه بأن يكون ولده عبيداً لولد إخوته لا غير..) مقدمة ابن خلدون (ص: 32،)
ثم استطرد في الحديث مبينا العلة المنطقية في اختلاف الألوان وأنه راجع إلى شدة حرارة الشمس في المناطق الاستوائية فقال :
(وفي القول بنسبة السواد إلى حام غفلة! (بل هو) من طبيعة الحر والبرد وأثرهما في الهواء وفيما يتكون فيه من الحيوانات. وذلك أن هذا اللون شمل أهل الإقليم الأول والثاني من مزاج هوائهم للحرارة المتضاعفة بالجنوب، فإن الشمس تسامت رؤوسهم مرتين في كل سنة، قريبة إحداهما من الأخرى، فتطول المسامتة عامة الفصول، فيكثر الضوء لأجلها ويلح القيظ الشديد عليهم وتسود جلودهم لإفراط الحر.) مقدمة ابن خلدون (ص: 33)
ويقول في موضع آخر:(وقد نجد من السودان أهل الجنوب من يسكن الرابع المعتدل أو السابع المنحرف إلى البياض، فتبيض ألوان أعقابهم على التدريج مع الأيام. وبالعكس فيمن يسكن من أهل الشمال أو الرابع بالجنوب، تسود ألوان أعقابهم. وفي ذلك دليل على أن اللون تابع لمزاج الهواء. قال ابن سينا في أرجوزته في الطب:
با لزنج حر غير الأجسادا ... حتى كسا جلودها سوادا
والصقلب اكتسبت البياضا ... حتى غدت جلودها بضاضا) مقدمة ابن خلدون (ص: 33).
وهذا التفسير الذي ذكر ابن خلدون يتطابق مع قول الانثروبلوجيين : إن الاختلافات في لون البشرة، وبنية الجسم، والكثير من الخصائص الجسمانية تمثل تكيفات لعوامل بيئية مختلفة.
ليس هذا إثباتا لنظرية التطور!..لكن تكيف الكائنات الحية مع الطبيعة أمر مشاهد ..
ويتفق هذا أيضا مع المعطيات الفيسيولوجية التي تؤكد وجود علاقة بين سواد البشرة وحرارة المناخ !
وبيان ذلك أنه توجد مادة صبغية تسمى "الميلانين" يتم انتاجها في الخلايا الطلائية في الجلد ،هي التي تمنح البشرة سمرتها ،وتزداد السمرة حسب كثافة مادة الميلانين..
ومن المعلوم أن فيتامين (د) يصنعه الجلد وتلعب أشعة الشمس الدور الرئيسي في صنعه لكنه يصبح ساما وقاتلا إذا كانت جرعته زائدة!
وهنا يأتي دور الميلانين...فهي قادرة على امتصاص 99.9% من الأشعة فوق البنفسجية التي تصل للجسم ، فتقوم بإمرار مقدار معين من ضوء الشمس لصنع الكمية المطلوبة من فيتامين (د) حتى لا تزيد نسبته ولا يتضرر منه الجسم.
و في الوقت نفسه تعتبر الأشعة فوق البنفسجية محفزًا لعمل هذه الخلايا لإنتاج صبغة الميلانين.
معنى هذا الكلام أن البشرة التي تحتوي على نسبة عالية من "الميلانين" سوف تكون سمراء ..لكنها في الوقت نفسه قادرة على امتصاص نسبة عالية من الأشعة الفوق بنفسجية !
وكذلك سواد العينين يحسِّن قدرتهما على الإبصار في ضوء الشمس الساطع .
وأهل المناطق القريبة من خط الإستواء يتعرضون لأشعة الشمس القوية، مما يزيد من امتصاص الخلايا الصبغية للأشعة فوق البنفسجية وكلما ازدادت اشعة الشمس تقوم الخلايا الطلائية بزيادة نسبة إنتاج صبغة الميلانين لأن أشعة الشمس تحفزها فيزداد بسبب ذلك اسمرار البشرة، وهذا يفسر كون الجلد الأشقر المعرض للشمس أكثر قابلية للإصابة بسرطان الجلد من الجلد الأسمر لأن الله تعالى منح الاخير حماية ووقاية ..
والنسبة التي وصلت اليها البشرة من السمرة يتم نقلها الى الأبناء، لان الخلايا التي تنشئ صبغة الميلانين يتم تكوينها حسب إنزيم التيروزينيز الذي ينقل الى الابناء.
وهذه النسبة الموروثة من الميلانين ثابتة لا تتغير،بدليل التوارث الجيني عبر آلاف السنين، وأما نسبة الميلانين المصنعة في الجسم فإنها تتغير عبر الأكسدة..
وقد جاء في دراسة أجراها باحثون من المعهد الامريكي لبحوث الجينوم البشري في ميريلاند، نشرتها “ديلي ميل” : أن البشر في جميع أنحاء العالم يتقاسمون هذه الجينات التي كانت موجودة حتى لدى أسلافنا القدامى قبل 900 ألف سنة على الأقل.
وأشارت الدراسة إلى أن البشر الأوائل في إفريقيا كانت لديهم بشرة داكنة لتحميهم من الأشعة فوق البنفسجية، وعندما هاجروا بعيدا عن خط الاستواء، إلى مناطق غير مشمسة صارت بشرتهم اقل سمرة.
ولهذا فإن الانثروبلوجيين يعتبرون "الجنس الجغرافي" أساسا لتصنيف الأجناس البشرية .
اذن يوجد عاملان يؤثران في لون البشرة هما الوراثة وحرارة الشمس.
فكون الإنسان لديه بشرة سوداء – يعني أنها غنية بصبغة الميلانين،و أنه محمي بقدرة الخالق جل وعلا من أشعة الشمس التي تؤدي إلى زيادة فيتامين (د) القاتلة !!
فاحمد الله يا أخي الأسمر على هذه النعمة العظيمة التي حماك الله بها وحمى بها أجدادك .
وارحم سذاجة قوام ظنوا نعمة الله شقاء ،واعتبروا سواد البشرة نقمة وبلاء !
وتأمل هذه الآية في خلقك، الدالة على قدرة ربك : (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ) [الروم:22]
إن وجود البشرة السمراء في البشر لا يعود الى لعنة ولا إلى غضب إلهي، بل هو إظهار لقدرة الخالق جل وعلى في أبداع الخلق وتنويع أشكاله ،كما هو الحال في سائر المخلوقات التي نوع الله تعالى ألوانها وأشكالها إظهارا لبديع صنعته وكمال قدرته .
*******
ومن رواسب الجاهلية : التشاؤم باللون الاسود او اعتباره رمزا للشر وسوء العاقبة، ونقيضا للخير والفلاح !!
وهذا من مخلفات التأثر بالمعتقدات المجوسية، التي جعلت للعالم خالقين : هما إله النور "خالق الخير" ، وإله الظلمة "خالق الشر" ، وكان من نتائج ذلك عبادة الشمس، والنجوم والنار، لأنها مصدر للضياء والنور الذي هو رمز الخير .
ثم كان التفاؤل بالبياض لأنه لون النور ،والتشاؤم بالسواد لأنه لون الظلمة !!!
وهذا الاعتقاد تأثرت به الأمم المجاورة للمجوس ،فقد كان الرومان يعتبرون السواد علامة على عدم الودية وكانوا يرسمون الشيطان باللون الاسود..!
و تشاءمت العرب بالليل وما فيه من سواد! واعتبروه ظرفا للخوف والقلق والهم !
كما في قول امرئ القيس : وليل كموج البحر أرخى سدوله علي بأنواع الهموم ليبتلي ..
وكان من الشعراء في العصر الاسلامي من تصدى لهذا التشاؤم كما في قول المتنبي - مشيرا
الى العلاقة بين التشاؤم بالليل ومعتقدات المانوية المجوسية :
وكم لظلام اللّيل عندي من يدٍ ... تخبّر أنّ المانويّة تكذب!
يقول: ليس الأمر كما زعمت المانوية ، بل إن الليل قد وقاني شر الأعداء، بأن وَارَاني منهم بظلامه،
ومثل هذا قول ابن المعتز:
كم ليلةٍ محمودةٍ أحييتها ... جاءت بأسعد طالعٍ لم ينحس
وامتد هذا التشاؤم بالظلمة والليل والسواد الى ان اصبح اللون الاسود علامة الحزن والحداد كما قال الشاعر :
إليكموها غرراً وإن تكن ** بدت من الأحزان في سوادها .
ربما لم يخالف في ذلك إلا أهل الاندلس الذين جعلوا لون البياض شعار الحداد بدلا من السواد !
وفي ذلك يقول الشاعر :
ألا يا أهل أندلس فطنتم ... بلطفكم إلى أمر عجيب
لبستم في مآتمكم بياضا ... فجئتم منه في زي غريب
صدقتم فالبياض لباس حزن ... ولا حزن أشد من المشيب
وسنة النبي صلى الله عليه وسلم دالة على أنه كان لا يتشاءم باللون الاسود ولا يفرق بينه وبين سائر الالوان..
فقد كان يلبسه في مواضع مناسبات الفرح والانتصار : أخرج مسلم "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل يوم فتح مكة، وعليه عمامة سوداء".
وكان يتجمل به في يوم الجمعة الذي هو يوم العيد والتجمل : روى مسلم عن جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه قال كأنى أنظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفيها بين كتفيه..
وكان يجعله شعاره في الحرب : روى ابن عباس ، أن راية رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت سوداء ولواؤه أبيض.رواه ابن ماجه
ولو كان في اللون الاسود شؤم لما اختاره صلى الله عليه وسلم لأوقات التضرع والابتهال الى الله عز وجل والتعرض لنفحاته ، فقد روى أبو داود عن عبد الله بن زيد قال: "استسقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه خميصة له سوداء".
وقد ورد في مسند الامام أحمد عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : (خلق الله آدم حين خلقه فضرب كنفه اليمنى فاخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر، وضرب كتفه اليسرى فاخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم، فقال للذي في يمينه: إلى الجنة ولا أبالي، وقال للذي في كفه اليسرى: إلى النار ولا أبالي ).
وهذا الحديث ضعيف لأن في إسناده راويا مختلفا فيه هو سليمان بن عتبة وقد تفرد به وهو ممن لا يحتمل تفرده!
وربما يستدل البعض للتشاؤم بالسواد بآيات من كتاب الله عز وجل فيقول : أخبر الله تعالى أن وجوه الكفرة والعصاة تكون مسودة يوم القيامة ،كما في قوله تعالى : {يوم تبيض وجوه وتسود}.
وقوله تعالى : { كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً} ..
وقوله تعالى : {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ}.
والجواب على ذلك من عدة اوجه :
الوجه الاول : أن السواد قد يكون علامة على العقوبة يوم القيامة ، لكن ذلك لا يقتضي بالضرورة أن يكون علامة على الشؤم في الدنيا .
الوجه الثاني : ان شدة الحر يوم القيامة أشد من حرارة المناطق الاستوائية فلا عجب ان تكون سببا في اسوداد وجوه أهل الشرك والمعاصي نسأل الله العافية في حين يأمن أهل الطاعة من هذا الحر فتبيض وجوههم .
الوجه الثالث : أن هرمون الأدرينالين (وهو الهرمون الذي يزيد افرازه في حالة الخوف) يزيد من تنشيط خلايا الميلانوسايتس ومن ثم يزيد معدل صبغة الميلانين مما يؤدي الى اسوداد البشرة.
الوجه الرابع : أن بعض المعادن الثقيلة قد تدخل في الجلد بكميات كافية لإحداث تغير في لون الجلد بغض النظر عن نسبة الميلانين..ويمكن أن نستدل لذلك بقوله تعالى : {ووجوه يومئذ عليها غبرة }.
وأما ما رواه الترمذي وأحمد وغيرهما عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن بن عباس ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : "الحجر الأسود من الجنة وكان أشد بياضا من الثلج حتى سودته خطايا أهل الشرك" .
فظاهر هذا الحديث يدل على علاقة بين السواد والخطايا ..!
لكن هذه الزيادة التي فيها ذكر السواد ضعيفة لا تثبت ..قال شعيب الأرنؤوط : قوله " الحجر الأسود من الجنة " صحيح بشواهده أما بقية الحديث فليس له شاهد يقويه وإسناد الحديث ضعيف لاختلاط عطاء وقال الإمام أحمد : كان يرفع عن سعيد بن جبير أشياء لم يكن يرفعها وقال أبو حاتم : رفع أشياء عن الصحابة كان يرويها عن التابعين.
والحديث ورد مختصرا بلفظ : " الحجر الأسود من الجنة " دون زيادة عليها عند : النسائي – من طريق موسى بن داود عن حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن بن عباس .
وعند أحمد من طريق شعبة عن قتادة عن أنس .
مما يشعر بأن الزيادة قد تكون مدرجة .
وأن سواد الحجر الأسود منقبة لأصحاب اللون الاسود لا مثلبة لهم إذ جعل الله تعالى لونهم مماثلا للون اشرف صخرة على الارض !!
ولهذا كان عنترة يفتخر بأمه فيقول :
أكر عليهمُ مهري كليما قلائده سبائبُ كالقرام
يقدّمُهُ فتًى من خيْرِ عَبْسٍ أبوهُ ، وأمهُ من آل حام
عَجوزٌ من بني حامٍ بْنِ نُوح: كأنّ جبينها حجرُ المقام.
والله سبحانه وتعالى افعاله كلها عدل ولن يجعل لونا من الالوان علامة وشعارا للذنوب والشر ويجعله في الوقت نفسه لونا طبيعيا لعباد لم يذنبوا بل منهم العباد الصالحون .
*****
ومن رواسب الجاهلية الظن بأن أصحاب البشرة السوداء أقل ذكاء من غيرهم !!
مع أن فيهم العلماء والنوابغ والمتميزين! بل إن منهم لقمان الحكيم الذي شهد الله تعالى له بالحكمة فقال :{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12]
قال ابن عباس : "كان لقمان عبدًا حبشيًا نجارًا". تفسير ابن كثير (6/ 333)
وقد انتقد ابن خلدون المروجين لهذا الاعتقاد فقال :
(تعرض المسعودي للبحث عن السبب في خفة السودان وطيشهم وكثرة الطرب فيهم، وحاول تعليله فلم يأت بشيء أكثر من أنه نقل عن جالينوس ويعقوب بن أسحق الكندي أن ذلك لضعف أدمغتهم، وما نشأ عنه من ضعف عقولهم. وهذا كلام لا محصل له ولا برهان فيه " والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) مقدمة ابن خلدون (ص: 35)
وشبيه بهذا مزاعم عالم الاجتماع الأمريكي شارلز موري المثير للجدل، الذي زعم في كتاب له عنوانه "منحنى الجرس" أن الزنوج والجنس الأسود عموماً أقل ذكاء من البيض !!
والعلم الحديث لا يثبت وجود عرق أكثر ذكاء من غيره بناء على التكوين الفسيولوجي ،فالأعراق متساوية من هذه الناحية ، وإنما يتفاضل الذكاء من شخص لآخر حسب الوراثة والبيئة وطبيعة ومستوى النشاط الذهني.
صحيح أن النشاط الذهني تقل فاعليته مع ارتفاع درجة الحرارة ، لكن ذلك على المستوى الفردي وينسحب على جميع الأعراق.
*******
بعد كل ما تقدم أقول : مازلنا بحاجة الى تنقية مجتمعنا من رواسب هذه العادة الجاهلية !!
هناك مجتمعات مجاورة لنا نشترك معها في الدين والثقافة والكثير من العادات ، استطاعت ان تتجاوز عقدة "اختلاف اللون" ، فما المانع من ان نحذو حذوها ؟!!
نحتاج إلى تربية ..
نحتاج ألى توعية ..
نحتاج إلى تنظيف أفكارنا ، وتطهير سلوكنا ، وإلا فسنغرق في مستنقع القاذورات الفكرية والسلوكية !
أيها المسؤولون ..
أيها المربون ..
أيها العلماء والأئمة والناصحون ..
ايها الكتاب والادباء والمفكرون..
يا وزارة التوجيه الاسلامي ..
يا وزارة التهذيب ..
نحن بحاجة الى غرس معنى المساواة في نفوس الصغار.. وتكريره على مسامع الكبار..
بحاجة ألى أن تكون المساواة قناعة في نفوسنا ، وسلوكا في أفعالنا ، وعادة سارية في مجتمعنا..
بحاجة الى أن نجعلها شعارا مرفوعا ، وصوتا مسموعا ، ومنهجا متبوعا ...
بحاجة الى ان نشعر بأن المساواة فريضة دينية ، وقيمة خلقية، وضرورة اجتماعية...
وأن نخرج بها من حيز الخطابات المصلحية إلى نطاق الممارسة الفعلية ..
فهل أنتم فاعلون ..؟!!ّ!