شهدت بلادنا منذ بداية هذه السّنة (2019) التي سنودّعها بعد ساعات من الآن حراكا منقطع النّظير ضدّ خطاب الكراهيّة والتّمييز، ابتداء من ليلة رأس السّنة الميلاديّة حين نظّمت وزارة الثّقافة والصّناعة التقليديّة والعلاقة مع البرلمان، بحضور ورئاسة وزير الثّقافة -حينها- نفسه أمسية بخصوص الموضوع مع الصّحافة الوطنيّة، وحثّهم خلالها على نبذ خطاب الكراهيّة والتّمييز ومحاربة كلّ أشكاله، وعدم نشره في المجتمع، وأن يتحلّوا بالمسئوليّة والموضوعيّة في تناولهم القضايا والمستجدّات الوطنيّة. وتبعتها مسيرة التّاسع من يناير التي قادها رئيس الجمهوريّة السّابق محمّد ولد عبد العزيز، وانتهت بخطاب حماسي، تعهّد فيه الرّئيس بتطبيق القانون على كلّ من يدعو إلى الكراهيّة والتّمييز. ثمّ توالت بعد ذلك ندوات ومبادرات في كثير من مؤسّسات الدّولة و في جميع الولايات، وتغيير أسماء الشّوارع، كلّها تصبّ في خانة محاربة خطاب الكراهيّة وتبعاته. ولكن لم يتكلّف أحد منهم بالبحث عن أسباب ذلك الخطاب ودوافعه، ممّا جعل البعض يعتقد أنّ كلّ هذا الحراك؛ رغم أهميّته وجدّية من قاموا به، إذا لم يتعامل مع مسبّبات الظّاهرة وعلاجها من الأساس، لن يكون ذا جدوى. إذ أنّ الكراهيّة مفهوم واسع، فهي إفراز هرموني طبيعي مثل الفرح والغضب وأيّ عواطف ومشاعر أخرى تنتاب الإنسان، ولذلك ينبغي أن يتركّز الحديث على أسباب الكراهيّة ودوافعه والجهة التي توجّه إليها، دون التّركيز على الكراهيّة نفسها أو مظاهرها. فهناك الكراهيّة الموجّهة نحو العدوّ المعتدي، والكراهيّة الموجّهة نحو الحكومات الاستبداديّة الظّالمة، والكراهيّة الموجّهة نحو التّهميش والتّمييز والإقصاء، وإلى من يمارس ذلك، كما أنّ الصّراع الطّبقي والجيلي يُعدّ نوعا من الكراهيّة أيضا، وبالتّالي، قبل الحديث أوالتّركيز على الكراهيّة يجب البحث عن أسبابها وتعامل مع تلك الأسباب بمسئوليّة و بجدّيّة، ومحاولة علاجها علاجا مناسبا و واقعيّا.
يعرّف البعض خطاب الكراهيّة بشكل عام، بأنّه محاولة بثّ الفتنة والتّحريض على الصّراعات والنّزاعات الطّائفيّة أو العرقيّة أو حتّى الإقليميّة الضيّقة، وكذلك عن طريق محاولة إنكار وجود الغير أو تهميشه وإقصائه، ونشر الفتنة واستخدام أساليب العنف أو اتّهام طرف الآخر بالخيانة والفساد، والولاء للخارج، كما سمعنا أكثر من مرّة من وزير الدّاخليّة في النّظام السّابق؛ عند ما تقوم شرائح معيّنة من المجتمع الموريتاني بممارسة حقّهم في التّظاهر السّلمي الذي يكفله لهم الدّستور الموريتاني، في تعبير عن امتعاضهم وعدم رضاهم عن سياسات الدّولة الإقصائيّة، يُتّهمون بأنّهم غير موريتانيّين وأنّهم قاموا بعمليّة نهب وسلب وإتلاف لممتلكات المواطنين الآخرين من الشّرائح الأخرى، محاولة في زيادة الاحتقان والتّباعد بل والكراهيّة داخل المجتمع وبين شرائحه المتجاورة المتداخلة المتسالمة. أو كما يتصرّف بعض الزّملاء في المؤسّسات الإعلامية الرّسميّة، عندما يجدون أحدا من زملائهم في الخدمات غير العربيّة (الفرنسيّة أو اللّغات الوطنيّة) يعمل على الأجهزة التّابعة للمؤسّسة، يحاولون بكلّ وقاحة وصلف إبعاده عنها، بحجّة أنّ خدمة العربيّة لها الأولويّة، كأنّ الخدمات الأخرى غير موجّهة إلى المواطنيين الموريتانيّين، وإن كانوا من الدّرجة غير المصنّفة حسب رأي الزّملاء المتخلّف، وعقليّاتهم المتحجّرة. أغرب تصرّف سُجّل في هذا المجال، هو عندما دخل مذيع من الخدمة العربيّة على زملائه في خدمة اللّغات الوطنيّة وهم في النّشرات على الهواء، وسحب منهم بكلّ عنجهيّة مقاييس المطر قبل أن يذيعوه، كي يقوم هو بتسجيله للخدمة العربيّة لتذاع لاحقا، بحجّة أنّه لا يستطيع الانتظار طويلا! صحيح أنّ هذه التّصرفات الغريبة ليست عامّة، و لاتخصّ منتسبي خدمة معيّنة دون غيرها، لكنّها تصدر من الزّملاء في خدمة العربيّة أكثر، لعدّة اعتبارات، من بينها اعتبارهم أنّ ما يذاع في اللّغات الأخرى لا أهميّة له و لا يتعدّى كونه ملء الفراغ، وأيضا لا تردعهم الإدارة على تصرّفاتهم تلك ولو علمت بها. في حين أنّ الخطأ في نطق اسم مسئول ما، أو من له صلة به، يَفصل صاحبه بعض الأحيان في الخدمات الأخرى. إذن يجب علاج مثل هذه الأمور قبل كلّ شيء، لأنّها تولّد الكراهيّة وخطابها، وتغذّيهما.
عندما نتأمل في المجتمع الموريتاني برمّته، سنجد أنّه مجتمع متجانس إلى حدّ ما، و لا توجد بين مكوّناتها المختلفة حواجز كبيرة، غير تلك النّاتجة عن اختلاف في الجزئيّات الثّقافيّة البسيطة النّاتجة بدورها عن الأصول العرقيّة المتنوّعة، ولكنّها لم تمثّل يوما عائقا يمنع التّعامل فيما بينهم، أو يمنع الاستفادة بعضهم من بعض، أو سبّبت الكراهيّة فيما بينهم. ما دام الأمر كما ذكرت، فما سبب خطاب الكراهيّة إذن!؟
أسباب خطاب الكراهيّة كثيرة، أبرزها غياب العدالة الاجتماعيّة، و عدم المساواة بين المواطنين في فرص خدمة الوطن وتقلّد المناصب، وتهميش وإقصاء طبقات معيّنة، وإبعادها عن مراكز صنع واتّخاذ القرار في الدّولة، مع فتح كلّ الأبواب والتّسهيلات أمام فئات وطبقات أخرى بعينها من المواطنين دون غيرها، هذا يؤدّي إلى الشّعور بالظّلم والغبن لدى الفئات المهمّشة، ممّا يجعلها لا شعوريّا تكره الطّبقات المستفيدة، أو توجّه تلك الكراهيّة إلى السّلطات القائمة المسئولة ببذل مزيد من المجهود لتحقيق العدالة بين المواطنين، ويعبّرونها بالخطاب الذي يدعو إلى العنف والانتقام دون قصد أو بقصد أحيانا.
ولذا، نتمنّى من الرّئيس الحالي محمّد ولد الشّيخ الغزواني ألاّ يكتفي بمحاربة خطاب الكراهيّة دون أسبابه، التي تمارس في مؤسّسات الدّولة المختلفة، بل يُنتظر منه أن يتّخذ قرارات مناسبة تجاه مسبّبات خطاب الكراهيّة ومعالجتها بشكل جذري وفعّال، عن طرق معالجة تلك الأسباب، مساواة بين جميع المواطنين في كلّ الفرص، وفي كلّ المؤسّسات وعلى جميع المستويات. وإن كان هناك من تمييز فليكن بناء على الكفاءة، الكفاءة فقط. هنا أقول أنّ الحكومة المشكّلة (حكومة إسماعيل ولد الشّيخ سيديا) وإن اعتمدت على الكفاءات، فقد غابت عنها كفاءات وطنيّة مهمّة تنتمي إلى طبقات مجتمعيّة لا يمكن تجاهلها في المجتمع الموريتاني، مهما كانت الظّروف، ونأمل أن يتمّ سدّ ذلك الفراغ في إعادة هيكلة تشكيلات الإداريّة المتبقّية، الوزارات محدّدة لايمكن تمثيل كلّ طبقات المجتمع فيها، ولكن هناك الأمانات العامّة والإدارات العامّة والوكالات الوطنيّة المتخصّصة، واللّجان الوطنيّة المستقلّة المتخصّصة، يجب أن يُشرك فيها كلّ المواطنين، كي يشاركوا في بناء وتنمية و طنهم ويعزّزوا انتماءهم إليه ويثبتوا وطنيّتهم، إذ لا يُمكن أن تَمنع المواطن من أبسط حقوقه، ثمّ تطالبه بعدم تعبير عن امتعاضه أو عدم رضاه، أو تطالبه أن يتحلّى بالوطنيّة، ويكون ولاءه للوطن الذي لم يقدم له أيّ شيء، بل يحاول تجريده من كلّ حقوقه كإنسان!.