مقابل الوفاء في الكمبيالة والشيك (أوجه الاتفاق والاختلاف) / احمد محمد احمد عبد

كان الإنسان في العصور القديمة يقوم بالتجارة عن طريق التبادل أو المقايضة ، كما أن الوفاء كان يتم بأوزان معينة من المعادن ، وذلك قبل أن يتم ابتكار النقود المعدنية والورقية كوسيلة للوفاء وكوسيط للتعامل بين الناس .

بيد أن المخاطر الجمة التي  كانت تعترض نقل النقود من سرقة وضياع ، أدت بالتجار إلى ابتكار وسائل قانونية لتفادي هذه المخاطر ، فظهرت بذلك الأوراق التجارية كوسائل بديلة للوفاء اتخذت شكل محررات أو صكوك وعرفت ازدهار كبيرا في المعاملات التجارية ، إذ لا يخفى على أحد ما للأوراق التجارية من أهمية في تنشيط الحياة الاقتصادية في أي دولة ، فهي تعد الوسيلة الناجعة في تسيير إبرام الصفقات التجارية لما تحققه من سرعة وائتمان تجعل من الإقدام الأفراد عليها السبيل الذي لا غنى عنه في المعاملات التجارية .

وتعرف الأوراق التجارية بأنها أوراق مكتوبة وفقا لشروط شكلية حددها القانون  وقابلة للتداول بالطرق التجارية ، وتمثل حقا بمبلغ من النقود مستحق الأداء لدى الإطلاع أو بعد أجل معين

وقد حصر المشرع الموريتاني الأوراق التجارية في الكتاب الثالث من م ت في ثلاثة أوراق وهي : الكمبيالة والسند لأمر والشيك ، ولكل منها طبيعتها المختلفة عن الأخرى .

فأما الكمبيالة فهي تتضمن ثلاثة أشخاص عند إنشائها وهم الساحب والمسحوب عليه والمستفيد ، وهي تعد أداة وفاء وائتمان ، كما تعد أداة لإبرام عقد الصرف .

وأما السند لأمر فهو يتضمن شخصين عند إنشائه وهم المتعهد والمستفيد ويمثل أداة وفاء وائتمان ، أما الشيك فهو يتشابه مع الكمبيالة في أنه يتضمن ثلاثة أشخاص وهم الساحب والمسحوب عليه والمستفيد ويختلف عنها في أنه لا يعد إلا أداة وفاء فحسب .

ونظرا لأهمية الأوراق التجارية فقد ذهبت جل التشريعات المعاصرة إلى توفير الضمانات اللازمة للدائن فيها وهو المستفيد أو الحامل حتى تبعث في نفسه الثقة وعدم الريبة في الإقدام على التعامل بها ، ومن هذه الضمانات ما يسمى بالضمانات الصرفية نظرا لاتصالها بالأوراق التجارية دون النظر إلى العلاقات السابقة على إنشائها والمتمثلة في القبول والضمان الاحتياطي والتضامن الصرفي، ومن هذه الضمانات أيضا ما يسمى بالضمانات غير الصرفية نظرا لاتصالها بالعلاقات الخارجة عن نطاق الأوراق التجارية والمتمثلة في : مقابل الوفاء الذي هو محور الدراسة :

ويعرف مقابل الوفاء بأنه دين للساحب في ذمة المسحوب عليه ، وقد يكون مصدر هذا الدين في الكمبيالة هو شراء بضاعة من طرف المسحوب عليه من الساحب دون أن يدفع قيمتها ، أو دين سلم نقدا من الساحب للمسحوب عليه أو غير ذلك ، ويمثل مقابل الوفاء في الشيك دين الساحب اتجاه البنك المسحوب عليه وهو ما يسمى بالرصيد .

وأيا كان مصدر هذا الدين ( إيداع نقدي من طرف الساحب لدى المسحوب عليه أو حوالة) ، فمقابل الوفاء يمثل دينا لمصلحة الساحب في ذمة المسحوب عليه ، وهو يمثل علاقة سابقة على إنشاء الورقة التجارية ووجود هذه العلاقة السابقة هو الذي دفع الساحب لسحب الكمبيالة أو الشيك لمصلحة المستفيد، وذلك بتحويل حقه(الساحب) لدى المسحوب عليه إلى المستفيد .

وبما أن مقابل الوفاء يمثل حقا للساحب في ذمة المسحوب عليه وينتقل إلى المستفيد فهو بذلك يمثل ضمانا لهذا الأخير ، وقد أثار هذا الضمان خلافا بين الدول الموقعة على اتفاقية جنيف للأوراق التجارية لسنة 1930 ، وكان جوهر الخلاف حول مدى الاعتداد بمقابل الوفاء كضمان لحامل الورقة التجارية ، حيث رأى أنصار المدرسة الألمانية أن مقابل الوفاء لا يعد ضمانا لحامل الورقة التجارية على أساس أن الالتزام الصرفي هو التزام مجرد عن العلاقات السابقة عليه ، وبالتالي لا يعتد بسبب تحرير الورقة التجارية ، ونظرا لأن مقابل الوفاء يمثل دين الساحب لدى المسحوب عليه فلا يجوز للحامل الارتكان إلى هذا الدين كضمان ينتقل إليه لكونه يتصل بالالتزام الأصلي بين الساحب والمسحوب عليه .

وعلى خلاف ذلك فقد رأى أنصار النظرية اللاتينية المتمثلة في الاتجاه الفرنسي أن مقابل الوفاء يعد ضمانا لحامل الورقة التجارية على أساس أن الدين الصرفي لا ينفصل عن الدين الأصلي .

ونظرا لوجود هذا الخلاف بين الاتجاهين فقد أعطت الاتفاقية للدول الموقعة عليها حرية الاختيار بالأخذ في تشريعاتها الوطنية بمقابل الوفاء كضمان لحامل الورقة التجارية أو عدم الأخذ به .

وقد تبنى المشرع الموريتاني الاتجاه الفرنسي الذي يعتبر مقابل الوفاء ضمانا لحامل الورقة التجارية ، وذلك في تنظيمه أحكام هذا المقابل في المواد 820 و894 من م ت وإعطاء الحامل حقا عليه وذلك بصريح المادة 820 من م ت التي تنص على أنه تنتقل ملكية المؤونة قانونا إلى حملة الكمبيالة على التعاقب .

وتأتي أهمية هذه الدراسة لبيان أوجه الاتفاق والاختلاف لمقابل الوفاء في الأوراق التجارية (الكمبيالة والشيك ) ، ذلك أن مقابل الوفاء في الكمبيالة والشيك إذا كان يشترط فيه أن يكون دينا بمبلغ من النقود ومساوي على الأقل لقيمة الورقة التجارية ، إلا أن هذا المقابل لا يشترط وجوده في الكمبيالة إلا في تاريخ الاستحقاق ، وذلك على خلاف الشيك الذي يتعين فيه أن يكون الرصيد موجودا وقت تحريره بوصفه أداة وفاء فحسب .

المحور الأول أوجه الاتفاق :

إذا كانت الكمبيالة تختلف عن الشيك من حيث الوظائف ، باعتبارها تشكل أداة وفاء وأداة ائتمان كما تشكل أداة لإبرام عقد الصرف ، وذلك بخلاف الشيك الذي ينحصر دوره في وظيفة الوفاء ، إلا أن كلتا الورقتين يتفقان في بعض المسائل الجوهرية المتعلقة بمقابل الوفاء ، ذلك أن مقابل الوفاء في كل من الكمبيالة والشيك يشترط فيه دائما أن يكون دينا بمبلغ من النقود ومساويا على الأقل لقيمة الورقة التجارية :

أولا أن يكون مقابل الوفاء دينا بمبلغ من النقود:

وهذا الشرط يتفق وطبيعة الحق الثابت في الورقة التجارية وهو دفع مبلغ معين من النقود ، فوجود دين بمبلغ من النقود للساحب في ذمة المسحوب عليه هو الذي يبرر للساحب أن يصدرا أمرا يفوض بموجبه شخصا آخر بقبض ماله من دين نقدي في ذمة المسحوب عليه .

وعليه يجب دائما أن يكون مقابل الوفاء دينا بمبلغ من النقود في ذمة المسحوب عليه وذلك بغض النظر عن مصدره ، فقد ينشأ مقابل الوفاء في البداية في صورة مبلغ من النقود مستحق للساحب في ذمة المسحوب عليه ، كما لو أقرض الساحب المسحوب عليه مبلغا من النقود أو أودعه مبلغا من النقود فصار دائنا له بهذا المبلغ ، أو كما لو باع الساحب للمسحوب عليه بضاعة فصار دائنا له بثمنها ، وقد يكون مصدر مقابل الوفاء بضائع أرسلها الساحب إلى وكيله المسحوب عليه لبيعها فيكون ثمنها هو مقابل الوفاء الذي يسدد منه الوكيل (المسحوب عليه ) قيمة السندات التي يسحبها عليه الموكل ( الساحب) ، لذا ينبغي عدم الخلط بين مقابل الوفاء ذاته والذي يجب أن يكون دائما مبلغا نقديا في ذمة المسحوب عليه ، وبين مصدر مقابل الوفاء الذي قد يكون بضائع أو غيرها .

ثانيا أن يكون مقابل الوفاء مساويا على الأقل لمبلغ الورقة التجارية(الكمبيالة ـ الشيك):

نص المشرع في الفقرة الثانية من المادة 820 من م ت على أنه " تكون المؤونة موجودة عند حلول أجل الكمبيالة إذا كان المسحوب عليه مدينا للساحب أو لمن سحبت لحسابه بمبلغ يساوي على الأقل مبلغ الكمبيالة "

في حين نصت المادة 894 من م ت على أنه " لا يجوز سحب الشيك إلا على مؤسسة مصرفية تكون لديها وقت إنشاء السند أرصدة للساحب يحق لها التصرف فيها بموجب الشيك طبقا لاتفاق صريح أو ضمني "

وباستقراء النصوص أعلاه يتضح أن  الأصل أن يكون مقابل الوفاء مساويا لقيمة الورقة التجارية ، فإذا كان ناقصا أعتبر في حكم مقابل الوفاء غير الموجود ، وبالتالي لا يلتزم المسحوب عليه بالقبول أو الدفع .

إلا أن المشرع حماية لحق الحامل قد أقر الدفع الجزئي ، وذلك بمقتضى الفقرة الثانية من المادة 840 من م ت التي تنص على أنه " يمكن للحامل أن يقبل دفعا جزئيا "

وفي هذه الحالة يكون للحامل على مقابل الوفاء الناقص جميع الحقوق المقررة له على مقابل الوفاء الكامل ، بحيث يكون له استيفاؤه بالأولوية على غيره من دائني الساحب .

المحور الثاني أوجه الاختلاف :

إذا كانت الكمبيالة والشيك يتفقان من حيث المبدأ في أن مقابل الوفاء في كل منهما ينبغي أن يكون دينا بمبلغ من النقود وأن يكون مساويا على الأقل لقيمة الورقة التجارية التي تتضمن الالتزام الصرفي كقاعدة عامة، إلا أنهما يختلفان في الوقت الذي ينبغي فيه تواجد مقابل الوفاء لدى المسحوب عليه ، إذ القاعدة العامة في الشيك هي إلزامية تواجد مقابل الوفاء لدى المسحوب عليه وقت إنشاء الشيك، حيث تنص المادة 894 من م ت على أنه " لا يجوز سحب الشيك إلا على مؤسسة مصرفية تكون لديها وقت إنشاء السند أرصدة للساحب يحق لها التصرف فيها بموجب الشيك طبقا لاتفاق صريح أو ضمني "

وتطبيقا لهذا النص وبما أن الشيك واجب الأداء بمجرد الاطلاع ، فلا بد من توافر الرصيد لدى المصرف المسحوب عليه قبل سحب الشيك ، ومرد ذلك أن الشيك أداة وفاء يندمج فيها تاريخ الإنشاء بتاريخ الاستحقاق ويلزم تقديمه فور إصداره إلى المسحوب عليه لقبض قيمته .

وذلك على خلاف الكمبيالة التي تعتبر أداة ائتمان وغالبا ما تتضمن  أجلا للوفاء وهو ما يعرف بميعاد الاستحقاق ، فالأجل هو الفرق بين تاريخ تحرير الكمبيالة وتاريخ استحقاقها ، فإذا كانت الكمبيالة مستحقة الوفاء بعد مدة معينة من تاريخ تحريرها فإن هذه المدة تعتبر أجلا للوفاء وهو ما يعبر عنه بالائتمان .

وتطبيقا لذلك فلا يلزم توافر مقابل الوفاء عند تاريخ تحرير الكمبيالة إذا كانت هذه الأخيرة تتضمن أجلا للوفاء ، إذ يكفي أن يكون هذا المقابل موجودا في ميعاد الاستحقاق ، وهو ما يعني أن الساحب قد لا يكون دائنا للمسحوب عليه وقت تحرير الكمبيالة بيد أنه سيكون كذلك في المستقبل وقبل ميعاد الاستحقاق .  

وخلاصة القول: أن أحكام مقابل الوفاء في الأوراق التجارية تختلف باختلاف الورقة التي تتضمن الالتزام الصرفي ، أي بحسب ما إذا كنا بصدد كمبيالة أو الشيك .

فإذا ورد الالتزام الصرفي في كمبيالة فإن مقابل الوفاء لا يلزم وجود إلا في ميعاد الاستحقاق ، أما إذا كانت الورقة التجارية التي تضمنت الالتزام الصرفي هي  (الشيك) فإن ذلك يستتبع بالضرورة توافر مقابل الوفاء عند إصدار هذا الأخير، باعتبار الشيك أداة وفاء لا ائتمان وواجب الأداء بمجرد الاطلاع ، ويترتب على الإخلال بهذا المبدأ قيام جريمة إصدار الشيك بدون رصيد المعاقب عليها بمقتضى المادة 964 من م ت .  

 

 

 

 

2. يناير 2020 - 1:12

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا