لا أريد أن أدخل في مناقشات نحوية مع اللغويين حول تحديد ما هو قابل لأن يبني للمجهول، كما أنني لا أري أنه من المناسب شغل وقت القارئ بشرح أسس ومتطلبات البناء، لأن الجميع اليوم في شغل وغير جاهزين بعد لمناقشة متطلبات البناء الصحيح وضرورات إقامة الدول ذات المنعة والمكانة اللائقة، ولأن الجواب علي هذا السؤال ظل هو الآخر مؤجلا وتم التعامل معه بطريقة أتقنتها النعامة وكنا خير مقلد لها بامتياز.
صحيح أننا بقينا أوفياء لفضائنا الصحراوي ولبئتنا البدوية في كل شيء- حتي في الترحال داخل فضاء كبريات مدننا الناشئة- لذا لم ندقق في قواعد البناء ولا في الأشواك الموضوعة في طريق الوليد الجديد، وصحيح كذلك أننا لم نك شركاء جديين في قرار بناء الدولة وفي اختيار حدودها ومقاساتها وغايات وجودها، كما أننا لم نوافق أصلا علي شطب إسم الإقليم: (شنقيط) واستخراج شهادة ميلاد له منتزعة من سجلات الدولة الرومانية المطمورة علي شواطئ الأبيض المتوسط: (موريتانيا)، وهو ما يفسر ترديدنا آنذاك لكلمات مغايرة لنشيدنا الوطني- العبق بالبعد الديني والوفي لعقيدة شعبنا- عند سماعنا لعزفه، حيث نقول:" ولد داداه كاس اندر أوجابنا مزود من.............إلخ ".
حقيقة أعتقد أن من عاصر مرحلتي الستينات والسبعينات من القرن الماضي سيتذكرها جيدا وذاك البعد الهزلي من الحكاية والذي لا يعكس قطعا التعلق القوي آنذاك بالوطن ولا الحفاوة البالغة التي كانت تصاحب احتفالات عيد الإستقلال الوطني ومشاعله الليلية ومسابقاته النهارية.
وبما أنه لا يمكن لأي بلد أن يجني إلا ما زرع، ويستحيل أن تنبت البذرة نبتة غير تلك التي تم بذرها، فإنه لنفس الأسباب لا يمكن أن تقوم الأوطان التي رسمتها " سايكسبيكو" إلا بالدور الذي من أجله أنشئت ووفقا لمقادير " الخلطة" التي أفرزت تلك الكيانات الجديدة.
فبعد أكثر من نصف قرن علي إعلان استقلال الدولة الموريتانية، هل أصبحنا نعيش واقعا أفضل؟ وهل أضحت المخاطر الذاتية والموضوعية أقل؟ أين وصلنا في مجال التنمية البشرية؟ وهل استطعنا بناء دولة تطبق مبدأ المواطنة علي شعبها؟ أين كانت مكانتنا في الإقليم وكيف أصبحت؟ وما هي المسافة بين فضاء حلم الإستقلال و"كوابيس" الحاضر؟
أسئلة قد نجد الجواب عليها وغيرها، عندما ندرك أن كل شيء في هذا البلد تم بناؤه للمجهول، فقرار تشييده بهذه المواصفاة والمقاييس "مجهول المصدر" بالنسبة لشرائح واسعة من شعبنا وثرواته نهبت دون رحمة، لكن الفاعل أيضا لازال مجهولا بالإسم، كما أننا أصبحنا – بفعل مرارة تجارب الماضي- نري في المستقبل كابوسا يصعب تحديد ملامحه، لأنه ببساطة مجهول وطلسم لا يمكن معرفة ملامحه.
ولعل أطرف ما نعيشه اليوم هو:السؤال الذي تطرحه الطبقة السياسية دون جواب: " من يحكم موريتانيا الآن بعد غياب الرئيس؟"- رغم وضوح الآليات القانونية والتأكد من انتهاء صلاحية المؤسسات البلدية والتشريعية- لأننا تعودنا التعتيم والتضليل في بلد كل شيء فيه رتب للمجهول.
فالحكومات المتعاقبة ظلت تعمل وفقا لمتطلبات اللحظة وتركت كل شيء مستقبلي للمجهول، لذا أصبحنا بلدا يجيد العلاج بالمسكناة، وخبرتنا فيه قد تؤهلنا للمرتبة الأولي عالميا بجدارة واستحقاق.
الطلاب عندنا يدرسون انطلاقا من واقع يحكمه المجهول وآفاق مستقبل شبيبة الوطن متروك أيضا للمجهول..أما الهوية وطبيعة العلاقة مع الجوار، فهما متروكان للمزاج الشخصي ولاختيارات الحكام "الملهمين"، الذين ظلوا في مجملهم يعطون أولوية لسياسة ردة الفعل، بديلا عمليا عن الفعل والتخطيط لما قد يجد من تطورات معروف أنها حتمية، لأنهم يتوجسون مما يخبئه لهم المجهول، لذا اختزلوا الوطن في شخصهم، وأصبح الخلاص منهم تهديدا للوطن ورد الفعل الخارجي علي رعونتهم تهديدا لأمن وسلامة البلد.
أما الثروات الوطنية، فهي نهب للمجهول والعلاقة مع المؤسسات المنجمية مجهولة أيضا وآفاق الإستغلال وفترته مجهولين، كما أن مضمون الخطاب الرسمي، هو الآخر أصبح وحده محل إجماع المواطنين حول قدرته علي توزيع الوهم بسخاء، ولعله الوحيد الذي عرف عدالة في التوزيع وكفاية في الإنتاج.
ويتجلي هذا الوهم عند ما نبحث عن حقيقة الوضع الصحي للرئيس- الذي يفترض المواطن أنه الساهر اليوم علي أمنه ومصالحه- فهو مجهول وإمكانية وفترة عودته مجهولين، كما أن تاريخ تجديد انتخاب الهيئات البلدية والتشريعية مجهولين ونفس الشيء بالنسبة لتاريخ انتهاء مشاريع دشنت لأكثر من مرة ولا زالت تراوح مكانها.
إنها الحقيقة المرة والواقع المأزوم الذي تعكسه جيوش " المثقفين" الأميين والديبلوماسيين الغوغائيين والساسة التافهين و" لوبيات"المتملقين الذين احتلوا كل الواجهات ونالوا الحظوة في الصدارة، في تضاد مع الكفاآت التي –بفضلهم- أضحت منبوذة وساكنة الريف والأحياء الهامشية التي بفعلتهم أصبحت مطحونة.
لهذه الأسباب أضحي كل شيء مشوها وغير واضح الملامح والمعطيات، فتساوت النقائض وتداخلت المعطيات، لنتبوأ بجدارة واستحقاق مقدمة البلدان التي تسير عكس التيار وتتحرك دون معيار، بني كل شيء فيها للمجهول وتركت ساكنتها لعاديات الزمن دون نصير.
لذا فليس لنا سوي خيارين:
-إما أن ندفن رؤوسنا في رمال صحرائنا الملتهبة شرقا.
- أو نطمرها تحت وحل أمواج محيطنا العاتية غربا.
أما الخيار الثالث، فهو ما حيل بيننا وبينه وسيبقي أيضا ضمن المجهول، حتي يقيض الله لهذه البلاد أمر رشدها ويوفقها لما فيه صالح البلاد والعباد.
وإلي أن تحين هذه الفرصة، يجب أن ندرك أنه لا أمل لنا في الحصول علي ضوء في نهاية النفق، إلا من خلال ما ننحته نحن في جدار هذا المجهول الذي تحكم في مفاصل حياتنا ومستقبل أجيالنا.. فهل من معتصم؟
بقلم.محمد المختار ولد محمد فال
كاتب صحفي