"أيتها الحرية كم من الجرائم يرتكب باسمك" وعلى غرار ذلك يمكننا أن نقول: مسكينة أيتها السياسة كم من السفالة ارتكب باسمك!
صحيح أن المصلحة هي المصطلح الأساسي في علم السياسة، والسياسة هي فن الممكن كما يقال، وانه في السياسة لا توجد صداقات أو عداوات دائمة وإنما مصالح دائمة... إلى غير ذلك من التنظير الذي يحلوا للحربائيين الدندنة حوله من اجل تبرير التلون والغش والغدر.. غير آبهين في خضم ذلك بكون المصلحة التي يدور الحديث حولها هي في حدودها الدنيا: مصلحة الحزب أو الجماعة السياسية والتي لا تتعارض مطلقا مع المصلحة العامة للمجتمع والدولة، وبأنه لا يمكن للنفعية السياسية بأبشع صورها أن تكون مبررا لما يقوم به البعض من سفالة!
صحيح أن المنظومة القيمية التي تتحكم في عالم السياسة عادة ما تكون أكثر مرونة وأقل تطلبا من المنظومة التي تتحكم في عالم الأخلاق ذلك العالم الذي يعتبر الواجب -الذي لا يتفق بالضرورة مع المصلحة- هو المصطلح والمحرك الأساسي فيه، غير أن المنظومة القيمية التي تحكم ساستنا المحليين بزت كل المنظومات التي تحكم السياسيين في العالم انحطاطا وعدم تحر للفضيلة، بل إنها جعلت منا ومنهم كالذين يعيشون حالة من الفصام الجماعي المزمن؛ ذلك أن أقذر السياسيين عندنا وأكثرهم ممارسة للغدر المكشوف لا يجد غضاضة ولا صعوبة في أن يكون رجل الفضيلة في المجتمع: فمكانه في الصف الأول من المسجد وهو من رجال القبيلة ومن أهل الحل والعقد والتدوين والمرجعية في المجتمع... وهو إلى ذلك لا يرى تناقضا بين سعيه للمكارم هذا وبين كونه الطاعم الكاسي المتلوث بأدران النفاق السياسي والغدر، والمصيبة أن المجتمع أيضا لا يرى تناقضا في ذلك!
إن أول تجربة للمجتمع بشكله الحالي مع الدولة كانت مع المستعمر الفرنسي ونتيجة لجملة من الظروف -ليس هذا مجال عرضها- بات لزاما على الناس الخضوع والولاء لهذه الدولة الأجنبية، خضوعاً يحركه الخوف والقهر، وولاءً تحركه الأطماع والمنافسات القبلية والشرائحية التي تتطلب أحيانا خيانة الإخوة في الدين والوطن لصالح الغرباء أعداء الدين والوطن...
إلا أن الوازع الديني -على ضعفه أمام مقتضيات القهر ومحفزات الطمع- ظل موجودا بالقدر الكافي لاستمرار الصراع النفسي الأزلي بين الواجب والمصلحة، بين ما نقوم به حقيقة وبين ما يفترض أننا مؤمنون به... تم حسم الصراع مبكرا وبأقل الخسائر حيث تم الاكتفاء بما يمكن أن نسميه بالمقاومة النفسية -مقاومة أضعف الإيمان- أي الانصياع لهذه الدولة وخدمتها في الواقع ورفضها وكراهيتها في الباطن، كراهية لا تظهر إلا في غياب هذه الدولة وغياب المبلغين عنها ولها...
إن هذا الاختلاف بين ظاهر الولاء وباطن البراء هو ما أنتج -حسب رأيي- حالة النفاق السياسي التي طبعت العمل السياسي المحلي إلى يوم الناس هذا، والتي أُلبست فيما بعد لبوسا أخلاقيا بمبررات دينية واهية تبيح إظهار الولاء للمتغلب حفظا للنفس والمال؛ ومبررات أوهى تفرض إبطان الكره له حفظا للدين وبراءة من الظالم!
ظلت هذه هي الطريقة السائدة في التعامل مع دولة الاستعمار الفرنسي، ومع حصول "ما سمي تسرعا الاستقلال الوطنى" كانت هذه الطريقة قد ترسخت بشكل باتت معه ثقافة وفلسفة من الصعب التخلص منها خاصة وان الدولة الوطنية التي نشأت في ظل "لا للاستقلال" لم تختلف كثيرا في جوهرها عن دولة الاستعمار...
ومع مرور الوقت و تعثر بناء نموذج الدولة الوطنية التي يحس المواطن أنها دولته الوطنية؛ ترسخت في اللاشعور الجمعي قاعدة التعامل الشيطانية الثابتة: خذ خيرها ولا تجعلها وطنا، لذلك فإن أي جهود للإصلاح ستظل مجرد صيحة في وادٍ ما لم تتوجه بالبحث العميق والإصلاح الجذري إلى واقع الحال هذا.