وكالة التحول الرقمي وأمن المعلومات : مشروع طموح لا يحتمل التأجيل / د. محمد الخليفة

إن التطور المذهل في عالم التكنلوجيا وأجهزة الحاسبات والهواتف واللوحات الذكية خلال العقدين الأخيرين 2000-2020 ساهم بشكل كبير في تسهيل حياة الناس وحصولهم على المعلومة بشكل سريع مما حدي بالدول والحكومات في المنطقة للتحرك سريعا للاستفادة من هذه الثورة الرقمية لتقريب الخدمات من مواطنيها وتسريع نفاذهم لها. إن التحول الرقمي يعني ببساطة عملية انتقال القطاعات الحكومية -تدريجيا-من النموذج لكلاسيكي في العمل إلى نموذج عمل جديد يعتمد على التقنيات الرقمية في تقديم الخدمات للمواطنين والشركاء والعملاء مما يؤدي حتما لاختصار الوقت وخفض التكلفة ورفع أداء العمل الحكومي بتحقيق مرونة أكبر في العملية الخدماتية وجعلها أكثر سرعة وسلاسة.

إن التجارب الناطقة في الدول المجاورة ودول العالم الثالث عموما تؤكد أن التحول الرقمي عامل أساسي لجذب الاستثمارات وتشجيع الشركات الدولية المتخصصة في التكنلوجيا الحديثة والابتكارات والتصنيع لولوج السوق الوطني مما ينتج عنه حركية للأموال وفرص عمل جديدة للشباب الجامعي وأرباح بالمليارات لخزينة الدولة.

 أما على مستوى التنمية المستدامة للدول، فتؤكد أغلب الدراسات الحديثة محورية الاعتماد على تكنلوجيا المعلومات والاتصالات في تحقيق أهداف التنمية المستدامة. وهو ما انتبهت له باكرا كل الدول الطموحة فسارعت حكوماتها إلى مواكبة التطورات التكنولوجية ودراسة تأثيرها على سلوكيات المواطنين وحاجياتهم فليس من المعقول أن يظل الجهاز الحكومي للدولة يقدم الخدمات بنفس الطريقة التي كانت تقدم بها منذ ستين عاما؟

إن رؤية العشرات من المواطنين الموريتانيين في الطوابير كل صباح أمام مصالح الدولة المختلفة والإدارات العمومية يطلبون خدمات بسيطة يمكن الحصول عليها بسهولة دون التنقل وتضييع الوقت في الطابور، فمثلا الحصول على مستخرج من عقود الازدياد في انواكشوط يتطلب يوما كاملا عند مكاتب وكالات استقبال المواطنين في حين لو اعتمدت الإدارة على الحلول الرقمية السريعة لكان بالإمكان لأي مواطن الدخول على موقع الوكالة الوطنية للوثائق المؤمنة وإدخال رقمه الوطني للتعريف وسحب مستخرج أصلي موقع. ويقاس على ذلك استخراج السجلات العدلية من المحاكم وطلبات بطاقة التعريف الوطنية وجوازات السفر والمنصات الرقمية لوضع ملفات المشاركين في مسابقات الاكتتاب التي تنظمها الدولة بدل طوابير بعشرات الآلاف، وتسديد فواتير الكهرباء والمياه وغيرها من الخدمات التي يمكن تسهيلها وتقريبها من المواطنين باعتماد الحلول الرقمية.

إن إطلاق مشروع الوكالة الوطنية للتحول الرقمي وأمن المعلومات صار اليوم ضرورة أكثر من أي وقت مضى ولم يعد يحتمل التأجيل، خاصة في ظل المستجدات الاقتصادية الطارئة والاكتشافات النفطية والغازية الواعدة ولا شك أن هذه المستجدات ستعمل في اتجاه التطوير والتغيير وحدوث تحولات غير مسبوقة في الاقتصاد الوطني وتنويع مصادره وتوسيع سوق العمل وتحفيز القطاع الصناعي حيث يُمثل التحول الرقمي واحداً من أهم دوافع ومحفزات النمو للقطاع الخاص مما سيفرض على كبريات الشركات الوطنية الحكومية وشبه الحكومية – اسنيم وصوملك مثلا - مما يفرض علىها سباقاً حاسماً لتوسيع خدماتها وتطوير حلول تسويقية تقنية مبتكرة تضمن استمراريتها في دائرة المنافسة الجادة.

وفي انتظار تبني الدولة لهذا المشروع التقني الطموح تظل الاقتراحات كلها واردة لتحديد طبيعة عمل الوكالة الجديدة ومسؤولياتها والهياكل التنظيمية والإدارية لها. وفي هذا السياق نقترح ما يلي:
تتبع الوكالة الوطنية للتحول الرقمي وأمن المعلومات مباشرة لرئاسة الجمهورية وتوكل لها حصريا مهمة تنظيم وتسيير وتنسيق التحول الرقمي ونظم وأمن المعلومات داخل الجهاز الإداري للدولة الموريتانية، ويتبع لها بشكل مباشر جميع المديريات المركزية للمعلوماتية في الوزارات والمؤسسات الحكومية، حيث أنه توجد في كل وزارة مديرية مركزية للمعلوماتية وأحيانا يقتصر دور هذه المديريات على طباعة وتصوير الأوراق داخل الوزارة وتسديد رسوم الانترنت لشركات الاتصال، مع غياب تام للإنتاجية والفاعلية والتصميم وتطوير التطبيقات المعلوماتية المواكبة حاجيات المواطنين وتقريب الخدمات منهم، والصادم في الأمر أن بعض الوزارات الحيوية في الدولة لا تملك مواقع نشطة على الانترنت وليست لديها منصات رقمية لمعالجة البيانات وإرشاد الوافدين، مما يفسر التسيب الكبير والفوضوية وغياب المسؤولية والرقابة عن عمل هذه المديريات المعلوماتية التي يفترض فيها الانضباط والحيوية داخل الجهاز الحكومي.
 نقترح إذن أن تتبع للوكالة الجديدة أربع مديريات فرعية: مديرية البنية التحتية الرقمية، مديرية نظم المعلومات والدعم الفني، مديرية الإحصاء والنشر الالكتروني، مديرية أمن المعلومات. وفي ما يلي تعليق مختصر على مهمة كل إدارة على حدة:
مديرية البنية التحتية الرقمية : يقتصر دور هذه الإدارة على توفير وتجهيز البنية التحتية المعلوماتية اللازمة لإنجاز عمل الوكالة، بعبارة أخرى تعمل على تطوير وتصميم جميع الأنظمة المعلوماتية والتطبيقات وقواعد البيانات الضرورية وصيانتها. ستكون هذه الإدارة ورشة صغيرة للمهندسين الموريتانيين المتخصصين في التطوير المعلوماتي وتطبيقات الويب والذكاء الاصطناعي وهي النواة الأساسية لعمل الوكالة.
مديرية نظم المعلومات والدعم الفني : تعمل هذه المديرية على تشغيل وتسيير البنية التحتية الرقمية التي تم تطويرها من طرف المهندسين، على أن تشرف أيضا على تجميع وتخزين واسترجاع البيانات وتحليلها والتواصل المباشر مع كافة المديريات المعلوماتية المركزية في الوزارات والمؤسسات الحكومية بغية التنسيق والدعم الفني.

مديرية المتابعة والنشر الالكتروني : تعمل هذه المديرية على متابعة تنفيذ استراتيجية الدولة في مجال التحول الرقمي ووضع المؤشرات القياسية لتقييمها وتحديد مدى نجاعتها تبعا لتعاطي المستفيدين من هذه الخدمات، كما تتولى مهمة النشر الالكتروني وتوفير تقارير رقمية دورية متاحة لصناع القرار والمستثمرين الأجانب والمواطنين المستفيدين من خدمات الوكالة.

مديرية أمن المعلومات : إن الاعتماد على الحلول الرقمية والتطبيقات المعلوماتية يحتاج أولا كسب ثقة المستخدمين والشركاء في آن واحد، ولن يحصل ذلك دون اعتماد سياسية أمنية قوية لمواجهة المخاطر التقنية المتزايدة، مما يعني أن دور هذه الإدارة سيكون حاسما داخل الوكالة الوطنية للتحول الرقمي وأمن المعلومات. حيث ستوكل لها مهمة تأمين الأنظمة المعلوماتية المستخدمة والتحقق من البيانات المتبادلة وموثوقيتها.

إن إطلاق هذا المشروع التقني الطموح من طرف الدولة الموريتانية في هذا التوقيت بالذات سيعتبر قفزة حقيقية نحو تحديث عمل الجهاز الحكومي وتشجيع مناخ الاستثمار وتقريب الخدمات من المواطنين فقد آن الأوان لرسم خطة استراتيجية رقمية واقعية مدعومة من القيادة العليا للدولة ومراقبة تنفيذها والتمكين للكفاءات الوطنية المتخصصة ووضعها على المحك لتنفيذ هذه الخطة التي ستمكن بعون الله من تطوير البلد وتسريع عجلة البناء والتعمير.

د. محمد الخليفة
دكتوراه في المعلوماتية
أستاذ بالمعهد العالي للمعادن – موريتانيا
باحث مشارك بمعهد البحوث في مجال الحوسبة – جامعة تولوز - فرنسا
 

23. يناير 2020 - 9:26

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا