خلق الله تعالى الأمم حتى تتقارب، وتتعارف، وتتشارك في حياتها على هذا الكوكب، ويخدم بعضها بعضاً، ولم يجعل الله تعالى الأمم كلها واحدة، بل جعل فيما بينها اختلافات واضحة سواءً كانت هذه الاختلافات شكليّة، أم جوهريّة، الأمر الذي عمل ولا يزال يعمل على سدّ حاجاتهم وقضاء مصالحهم. غير أنّ عشاق الخراب، ومن تأثروا بأفكارهم رفضوا هذا الوضع، وآثروا خلق المشكلات بين الناس، وإثارة التحزُّبات، والتجمُّعات، والتعصُّبات على أسس مختلفة؛ كالعرق، واللغة، والدين، واللون، والتوجّه السياسي، ممّا حوّل العالم إلى خراب، يأكل الناس فيه بعضهم البعض، وتستباح فيه الحرمات، وعلى رأسها الدماء المعصومة ؛ وليس الربيع العربي ببعيد عنا وما جلبه من خراب ودمار ؛ وتنبه العديدون إلى الأخطار الجمة التي تهدّد مستقبل الإنسانيّة، فظهرت العديد من المصطلحات، والأفكار، والدعوات التي تساعد على إعادة الناس إلى رشدهم ؛ ولعلَّ أكثر ما يتردّد على منابر المصلحين، ودعاة الحقّ مصطلح ثقافة التسامح.
فما الذي نعنيه بثقافة التسامح ؟ يُعرَّف التسامح لغة على أنّه التساهل، وقد تحوّل هذا المصطلح إلى واحد من أكثر المصطلحات تردداً على ألسنة المصلحين، والمفكّرين، وغيرهم، وهو مصطلح يتضمّن التأكيد على أهمية احترام الآخرين، وحقّهم في اعتقاد ما يشاؤون، وعدم النظر إليهم بانتقاص لأنّهم مختلفون في لغاتهم، أو ألوانهم، أو دياناتهم، أو ايديولوجياتهم ، الأمر الذي يضمن للجميع الحق في الحياة الكريمة، الخالية من المنغِّصات مهما كان نوعها. وإن تحويل التسامح إلى ثقافة تعمُّ أرجاء المجتمع يحتاج إلى عمل دؤوب من قبل كافة الجهات المعنيّة، خاصّة تلك التي تهتم وتُعنى ببناء الإنسان، وعلى رأسها الأسرة، والمدرسة، والدولة، إلى جانب أصحاب الفكر، وعلماء الدين وقادة الرأي السياسي وغيرهم، فكلّ هؤلاء يمتلكون القدرة على تشكيل عقل الإنسان، وعاطفته، وتحصينه من الأفكار الدخيلة التي تعمل على تهميش الآخر، واحتقاره، وازدرائه، والتعامل معه بطريقة تتنافى مع أبسط حقوق الإنسان، والمبادئ الإنسانيّة العالمية التي تؤسّس لمجتمعات متحابّة، متآلفة، تتعاون فيما بينها على الخير، وعلى إبعاد الشرِّ عنها ؛ مجتمعات كرمها الله ؛ فما بالك بالاحتقار والازدراء الذي يمارسه بعضنا تجاه البعض .
ولذا فإن المنتدي الدولي المنعقد يوم أمس والذي افتتحه رئيس الجمهورية؛ يعتبر رسالة واضحة المعالم وهو ما جاء علي لسان رئيس الجمهورية من أن أرضنا تعتبر رافدا أساسيا للسلم والسلام والأمن والأمان بكلمة واحدة التسامح ؛ إنها مهد العلم والعلماء المعروفين بتعلقهم المستميت بتعاليم الدين الناصع الذي لا تشوبه شائبة ولا يعكره صفو الإرهاب والغلو والتعصب والتحجر الفكري ؛ إنه دين مبني علي التسامح قال تعالي : " ولو كنت فظا غليظ القلب لأنفضوا من حولك .." ؛ فهو دين العالمين ؛ دين تحدي كل الديانات وسيظل كذلك إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها ؛ ويعتبر التسامح هو اللبنة الأولي التي شيد عليها صرح الدين ؛ فما الذي نعنيه بثقافة التسامح ؟ هذه المفردة الخفيفة الطفيفة علي اللسان العربي ذات العيار الثقيل تحيل الي المفاهيم الإيتيكية الأخلاقية الرفيعة التي دعا إليها كافة الرسل والأنبياء والمصلحين لما له من أهمية كبري في تحقيق وحدة وتماسك المجتمع والقضاء علي الخلافات البينية بين الأفراد والجماعات ؛ هكذا فالتسامح يعني العفو عند المقدرة وعدم رد الإساءة بمثلها والترفع والتعالي عن الصغائر والسمو بالنفس البشرية إلي مصاف الأخلاق الرفيعة ؛ ولا شك ان أول أنواع التسامح هو التسامح الديني ؛ بمعني التعايش بين الأديان وتنمية ثقافة التلاقح الثقافي بدل التصادم ؛ أو القضاء على ثقافة الآخر كبديل لطمس الثقافات الأخرى؛ أي العمل علي التفاعل المستمر الحي للتعددية الثقافية وحرية ممارسة الشعائر الدينية رفضا للتعصب والتحجر الديني ؛ مما يستدعى منا الحديث عن التسامح الفكري الثقافي واحترام أدبيات الحوار او التحاور والتخاطب المبنيين علي الفاعلية التواصلية ؛ بالإضافة إلي التسامح السياسي الذي يتطلب نهج مبدإ الديمقراطية ؛ التي تعني الشوري في الإسلام وضمان الحريات السياسية الفردية والجماعية ؛ ونشير هنا إلي أن التسامح لا يعني التنصل أو التنازل عن الحقوق أو حتي التهاون في المعتقدات ؛ او قبول أي شكل من أشكال الظلم الاجتماعي ؛ والتغاضي عن حفظ الممتلكات العامة وصيانتها وخاصة في ظل شيوع ثقافة إنتشار الفساد الذي عشش وباض ثم فرخ في أدمغة موظفينا قبل إدارتنا؛ ولذا فإن من ثقافة التسامح صقل أدمغة هؤلاء المفسدين والفاسدين من أدران الفساد ؛ كي نبني مجتمعا متسامحا متآخيا ؛ يحترم بعضه البعض ؛ بعيدا عن ثقافة التحامل واالحقد والسب والتخوين ؛ فنحن نجد في ديننا ثقافة التسامح والسلم ؛ لكن مجتمعنا لا يعبأ بذلك؛ بمعني أنه لا يمارس مفهوم التسامح الذي حض عليه الإسلام إلا مكرها ؛ فكيف يمكن تنمية ثقافة التسامح المبنية علي تقبل الآخر واحترامه وحق الاختلاف الذي يضمنه الدين وتكفل به قال تعالي : " ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم " فالتسامح يعني الاختلاف الذي لا يفسد للود قضية ؛ فكيف تتقوم ثقافة التسامح والتصالح ويستقيم ساقها دون اقتناعنا بها ؟ ؛ ألا يعد ذلك نوعا من ترسيخ وتكريس ثقافة التعصب والتناحر والاقتتال ؛ بدل التسامح والتراحم والاعتدال ؟ .