كلمة الإصلاح تود أن تبين لأي قارئ لكلمتها هذه أنها تؤمن بقوله تعالي : (( لا يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد )) ، ومن القول لدي الله أنه أمر كل من مكن له في الأرض وهو يؤمن بلقائه يوم القيامة أن ينفذ قوله تعالي : (( يا أيها الذين ءامنوا كتب القصاص في القتلي )) ، فالمولي عز وجل عندما أراد خلق ابن آدم وأخبر ملائكته بهذه الإرادة أجابوا بأن ابن آدم سيكون سفاكا للدماء ومفسدا في الأرض ، فأجابهم الله بأنه أعلم منهم بكل ما سيفعله ابن آدم هذا من كل فساد أو غيره ، ولذا فإن الله تبارك وتعالي لم يخلق ابن آدم ويجعل في طبيعته حب الفساد وسفك الدماء ، ومع ذلك لم يجعل له أي عقوبة في الدنيا قبل الآخرة ، نعم جعل له عقوبة في الدنيا ، وأمر من مكن لهم في الأرض أن يقيموا تلك العقوبة ، وأمر بذلك كما أمر بإقامة الصلاة وايتاء الزكاة ، ولم يترك أي كلام لمفكر ولا لمجتهد أن يأخروها ولا أن يبدلوها بعقوبة أخري ، فقوله تعالي : (( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل )) ، فجعل هذا السلطان لولي المقتول علي القاتل لا يكون إلا بواسطة من مكن الله له في الأرض ، فلا يجوز لولي المقتول أن يقتص لنفسه ، ولا يجوز لمن مكن الله له في الارض أن يبدل القصاص بغيره إلا برضي ولي المقتول ، وهكذا ، فإن قوله تعالي : (( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما )) و (( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما )) ، فالأمر هنا من الله للفاعل بأن يفعل هذا الفعل وهو القطع والجلد إلي آخره ، لا يجوز لأي كان أن يبدله بعقوبة أخري أو يتركه من غير عقوبة أو يتجاهله إلا بتمرد منه علي الله ، فكل من أعطاه الله المقدرة بأي شكل من الأشكال بأن يأمر بالمعروف أو ينهي عن المنكر ، - وأول المعروف هنا هو أمر من مكن الله له في الأرض بإقامة الحدود كما أنزلها الله – فمن لم يأمر بالمعروف بإقامتها وينهي عن المنكر بترك إقامتها وهو يقدر علي ذلك ، فقد تمرد أيضا علي الله هو الآخر بهذا السكوت ، كما قال تعالي : (( كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون )) فإبدال العقوبة بالسجن وتسميته تعزيرا ، تحريف لعقوبة الله علي عباد الله من طرف سلطة دنيوية مكن الله لها في الأرض ، فالمولي عز وجل ، عندما أنهي تحديد تقسيم التركة بين أهلها محددة ، أتبعها بقوله تعالي : (( تلك حدود الله )) إلي قوله تعالي : (( ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده ندخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين )) فجميع حدود الله علي أهل الدنيا يجب عليهم تنفيذها ، ولذا دائما يتبع الله أمره لمن تعداها بالوعيد الشديد كما قال تعالي : (( ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه )) ، وباختصار فإن حدود الشرع المحددة فيه سواء كانت عقوبة لجريمة معاقب عليها نصا في القرآن ، أو حدوده في الأحوال الشخصية بين المسلمين ، سواء كانت بوجوب القيام بها أو تحريم فعلها إلي آخره ، كل هذا ملزم به من يهمه الأمر من المسلمين ، ويعنيه خطاب الله في الموضوع ، وعلي كل مؤمن له استطاعة علي الأمر بما أمر الله به ، أو إنكار ما أمره الله بإنكاره أن يفعل ، وإلا فإن الله قد خاطب النبي صلي الله عليه وسلم بقوله : (( لولا كتاب من الله سبق لمسكم في ما أخذتم عذاب عظيم )) ، فالدنيا ليست دار انزال عقوبة بالمخالف ، ولكن الله يؤخر المخالفين ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ، والآن أعود لأوضح أن هذا المقال المتضمن وجوب إقامة الحدود سببه قراءة تدويانات في الفيسبوك ، توهم القارئ عدم أولوية إقامة الحدود في حياة الشعوب الإسلامية ، قبل أن يتحقق لهم – في نظره – ما هو أولي من ذلك من بسط حرية كاملة ومساواة عادلة إلي آخر ما يفهم من تلك التدوينات – إذا فهمت – وهذه هي التدوينات كما هي بالحرف : الأولي " إياكم وخطأ المدخل : حدود الشرع وعقوبات الإسلام لاحقة علي عدله وقيامه علي مصالح الناس : طالبوا بقسط الإسلام ثم بحدوده " والثانية " للسلطة طريق : يوصل إليها وتلزم فيه الشرعية ، وللسلطة سلوك وأداء تلزم فيه الشريعة ، وفي الإسلام موجهات وضوابط في المسؤولية فهل هذا واضح ؟ " والثالثة " رفع الإسلاميون خلال فترة طويلة شعار تطبيق الشريعة الإسلامية وعرفوا به في مختلف البلدان في السبعينات والثمانينات وسنوات من التسعينات ولوحظ خلال هذه الفترة أمران : الأول أنه نجح الإعلام المعادي للإسلاميين وساعده في ذلك أقوال وتصريحات للبعض في تصوير الشريعة أنها الجانب الجنائي والعقابي فقط ( الحدود ) ، الثاني أن أنظمة ليست مشهورة بحب شعوبها لها والحرية مقيدة ومحاربة عندها تدثرت بدثار الشريعة ( السعودية ، سودان النيمري ، باكستان ضياء الحق ، موريتانيا هيدالة ) وقد ساعد الأمران في تشويه معني تطبيق الشريعة ، وتغييب مضامين الشريعة ذات الصلة بالعدل والإصلاح والشوري ومصالح الناس ، بعد ذلك بفترة تقدم في سلم أولويات الفكر الإسلامي الاهتمام بالحرية وحق الناس في اختيار من يحكمهم ، وواجبهم في رقابته ومحاسبته ، وحقهم في عزله وإقالته ، ومن هنا كثر الحديث عن الشرعية وكيف تحصل للسلطة وأنه لا يعوضها تطبيق أو تنفيذ مهما ادعي أصحابه وصفه بالشريعة ، وهكذا طغت في بعض الأدبيات الإسلامية الدعوة إلي تطبيق الشريعة الإسلامية ، وشاع في أديبات أخري التركيز علي الشرعية بل وقابل بعضهم مقابلة تقديم وتأخير بين السياسة الشرعية ، والشرعية السياسية ، ولو انتبه الجميع لأدركوا أن الشريعة الإسلامية جواب علي سؤال مصدر التشريع وهو ما ينتمي لدائرة القانون ، واختيار الناس والديمقراطية جواب علي سؤال الشرعية وهو ما ينتمي لطبيعة النظام السياسي ، وللإسلام قواعد وموجهات في الحالتين ، فأجمعوا يرحكم الله بين شرعية الاختيار ومصدرية الشريعة ، وإلا عرضتم عنوان الشريعة لعبث المستبدين ، وادعاء الفاسدين " .
هذه التدوينات كتبتها كما هي ليشاركني القراء في فهمها ولاسيما أنها مكتوبة وصادرة من مفكر إسلامي له اليد الطولي في معرفة المعارف الإسلامية ، ولأجل ذلك سوف نقوم بنشرها لعل مفكر آخر إسلامي يقرؤها ويعيد لنا كتابتها بلغة أو فهم تتساوي الناس في فهمها ، فأنا تمنيت أن تكون الملائكة الحفظة يتكلمون معنا لنسألهم هل هذه التدوينة كتبها ساعة خروجها من الفكر صاحب اليمين أو غيره ، فأنا متيقن أنهم فهموها فهم يفهمون كل لغة ، وكلام كل جهة ، تتكلم بلغة واحدة ، فهم يفهمون مراد المتكلم لأن المحاسبة علي النيات ، أما فهمي أنا لها المتواضع لقلة أدوات الفهم عندي ، إلا أن هذا التفكير يحاول أن يدخل تفكير أهل الدنيا في حياتهم اليومية ، وأن يكون الإسلام قابلا لذلك ، وما نرجوه أن يقوم مفكر آخر يعرف الطريق المستقيم الذي أمر الله المسلمين بأن يطلبوا منه التوفيق لسلوكه في حياتهم الدنيوية بجميع أنواعها سواء كانوا سلطة أو مجتمعا ذكورا أو إناثا سرا وعلانية أي يدركون العلاقة فيما بينهم وبين الله أو بين بعضهم مع بعض ، وفي جميع أشكال العلاقة سواء كانت إقامة صلاة أو إقامة حدود أو حياة اجتماعية أخري إلي آخره ، وكل هذا موضح في هذا الكتاب المنزل من عند الله والمحفوظ منه أيضا إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها يقول تعالي : (( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم )) ، فتدوينات هذا المفكر يريد بها أن يسهل طريقا لإدماج ما أنتجته العقول البشرية من سلوك لهذه الحياة الدنيا ، وسمته الديمقراطية ، ليتولد منها كيفية اختيار السلطة وعلاقتها مع الشعب وواجبها اتجاهه ، وواجب الشعب اتجاهها ، ويتكون من هذا في نظر المفكر أن هذه الحياة بهذا الاعتقاد هي التي سوف تكون عليها المحاسبة في الآخرة بمعني أن قوله تعالي : (( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا )) ، وقوله تعالي : (( مالهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها )) كل هذا يمكن تطويعه ليكون أساسا واضحا عند المسلمين أمام الله ، أما غير هذا الفكر فيعتقد أن جميع أوامر الله ونواهيه لأي إنسان رئيسا أو مرؤوسا مسطر من قبل في الإسلام ، وأن جميع اتباع البشرية في قوانينها مهما كانت ديمقراطية أو غيرها يدخل في حديث " ستتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر " إلي آخر الحديث الذي ورد علي جهة ذم الفعل وليس الرضي عنه ، وإنما أعظم ما يؤلم القلب عند قراءة التدوينات هو عندما يمر القارئ بقضية ما قيل في تطبيق الشريعة في بعض الدول الإسلامية ، ولاسيما قول التدوينة بصفة الذم لأولئك الرؤساء أن شعوبهم تكرههم ليتيقن القارئ أنها تكرههم علي تطبيق الشريعة ، فلم يجد القارئ لتلك الفقرات من التشبيه بها إلا ما عاب به قوم لوط آل لوط بقولهم : (( أخرجوا ءال لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون )) والذي يهمنا نحن هنا هو ما يتعلق بالرئيس هيدالة حفظه الله وأطال في عمره ، فنحن الآن عندنا تسعة رؤساء بعد الاستقلال ، أربعة منهم أمام ربهم حالا فهل في نظر المفكر الإسلامي أن الله لم يسألهم عن إقامة الحدود بين عباده عندما مكن لهم في الأرض ، وعندما اعتدي بعض الناس علي بعض لأن الحرية والقيام بمصالح الناس ما زال ناقصا ، فهيدالة وحده هو الذي ترك لنا قانونا كتبه العلماء بأمر منه علي ضوء الشريعة الإسلامية ، وما زال هذا القانون هو منقذ الشعب الموريتاني غدا بإذن الله من عدم طلب تقنين أحكام الشريعة الإسلامية ، فالحكم من عمل القاضي والتنفيذ من عمل الرئيس وكلاهما سوف يقوم أمام الله للمساءلة عن ذلك ، ومن نظر إلي المادة الأخيرة من هذا القانون سيجد فيها كلمة بحقها أن تكتب بالذهب وهي : " كل ما لا يوجد في هذا القانون يرجع فيه إلي مشهور مذهب الإمام مالك " بدل قول القانون الأول " يرجع فيه للقانون الفرنسي " ، وعلي كل حال فتلك التدوينات لا يفهم منها إلا الحصيلة من فكرها ، وتلك الحصيلة لا يستطيع أن يدخلها في الإسلام في الدنيا والآخرة إلا من استطاع إخراجها هكذا من الفكر إلي عالم القراءة ، والله أسأل أن يوفق الجميع إلي سلوك ما عند الله أنه هو الطريق المستقيم