لا شيء يكشف هشاشة الدولة الموريتانية ورخاوة بنيتها المؤسسية مثل التعاطي مع محاولة اغتيال الرئيس عزيز وما تلاها. فقد انصرم شهر كامل على شغور أعلى منصب في الدولة، ولا يدري المواطن من يسوس أمره، ويدير شؤونه، ويقود دولته.. ولا يدري أين تسير الأمور في بلده الفسيح الأرجاء، الهشِّ البناء، الذي ينخره الفساد والاستبداد، وتتقاذفه السهام من كل جانب.
لقد سال حبر كثير حول ملابسات إصابة الرئيس الموريتاني.. بيد أن حصاد الشائعات والشائعات المضادة، بعد تنقيته وتقطيره وتكريره، يقود في النهاية إلى أن الإصابة كانت في ظروف اجتماعية وشخصية خاصة جدا لا يحسن الكشف عنها، وأن الرئيس عزيز وذويه هم أحرص الناس على إغلاق الملف إلى الأبد، دون تحقيق قضائي، أو محاسبة قانونية، أو كشف للحقيقة. وليس ينفي هذا الأمرُ وجودَ دافع سياسي وراء محاولة الاغتيال، وإنما يدل على أن ذلك الدافع السياسي قد استتر بستار كثيف، يستوي الجاني والضحيَّة في مصلحة اجتناب هتْكه.
وقد تماسك عزيز -رغم عُظْم مصابه- ليصرّح للرأي العام الموريتاني قبل رحيله إلى فرنسا بقصة النار الصديقة، حرصا على التستر على الأمر، ثم وفرت قيادة الجيش الغطاء الشفاف الذي لم يصدّقه ذو عقل، في شكل شهادة متهاتفة، قرأها ملازم مرتبك لا يحسن المراوغات السياسية، تلقيناً من عقيدٍ لا يملك خيالا شعريا. ويظهر من مسار الأمور منذ يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول حتى اليوم أن قيادة الأركان قد بوغتتْ بمصاب عزيز، وأن قادة الجيش لا يزال لديهم من التعاطف الشخصي مع عزيز ما يجعلهم مستعدين لحماية ظهره مؤقتا في انتظار رحيله من السلطة طوعا أو كرها. لكن التعاطف الشخصي مع الرئيس الجريح ليس مرادفا للولاء السياسي له، وليس من الوارد أن تستمر حماية الجيش لعزيز فترة طويلة. وفي خضم هذا الخواء والغموض الكثيف ظهرت ثلاثة أطراف سياسية، تبنَّى كل منها نهجا، واتجه وِجهة هو مُولِّيها: أولا: الأحزاب السياسية الممثلة في منسقية المعارضة، وهذه يُشكر لها السعي والوعي على أية حال.. لكن غاية ما أنجزته هذه الأحزاب منذ إصابة عزيز هو شعار ضمني يقول: "أنا أطالب فأنا موجود". وربما نسيَ قادة المعارضة أن السياسة مغالبة لا مطالبة، وأن الاعتماد على حسن نيات الجنرالات، أو على إيمان القيادة الفرنسية بعالمية المبادئ التي انبثقتْ عنها الثورة الفرنسية مراهنة على السّراب.. فأن تنقلب هذه الأحزاب من منطق المغالبة الذي تبنَّتْه طيلة العامين المنصرمين إلى منطق المطالبة والانتظار لهو أمر مخيِّب للآمال حقا. ثانيا: الأحزاب السياسية الموالية وشبه الموالية: وقد انخرطتْ في هزليَّة اتصالات عزيز الهاتفية، والتغطية على وضعه الصحي الحرج ومكانته السياسية المتضعْضعة. وقد أحرق قادة هذه الأحزاب مراكبهم قبل بدء الرحلة، وتطوعوا بمهمات تسويقية لعزيز ربأتْ قيادة الحزب الحاكم بنفسها عن القيام بها، فخذلوا شعبهم بالانحياز لحاكم عسكري انقلابيٍّ عليل، في لحظة حرجة من التحول الثقافي والسياسي العميق في المنطقة، وأمواجٍ عاتية من الحروب والأزمات التي تطرق الأبواب.. فبرهنوا على أنهم قصار النظر كبار المطامع.. لا أكثر ولا أقل. ثالثا: أُسْرة عزيز، وهي كل ما تبقَّى اليوم من معالم دولته. وقد انتهجتْ نهجا مفاده: "أنا أتصل فأنا موجود". فهي تُطلع صوتَ عزيز –أو صوتا يشبه صوته- من حين لآخر ليحدِّث هذا الفرد أو ذاك. لكنه ينسى دائما أن يحدّث المعنيَّ الأول بالأمر وهو الشعب الموريتاني، عبر القنوات المعنيَّة الأولى بالأمر، وهي وسائل إعلام الدولة الموريتانية. وقد نسيتْ الأسرة الكريمة أن القدرة على الحديث بالهاتف –إن صحت نسبتها أصلا- ليست الشرط الوحيد في الكفاءة السياسية والجدارة بقيادة الدول. ليس مِن ريبٍ أن عزيز لم يتجنب وسائل إعلام بلده إلا بسبب عجز صحيٍّ مُقْعِد أو تعجيز سياسي قاهر؟
ويبدو المشهد الموريتاني اليوم على مفترق طريق خطر مفتوح على كل الاحتمالات، بما فيها المواجهات الدموية والحروب الأهلية. وأكثر ما يحيّر المراقبَ في هذا المشهد هو سلوك القيادة العسكرية الموريتانية، وتحرك فرنسا الظاهر والمضمَر، وكلاهما يدل على شطب للشعب الموريتاني من المعادلة، واستهتارٍ بإرادته السياسية ومطامحه إلى العدل والحرية. إن الغموض الذي يلفُّ المشهد الموريتاني برمته اليوم يُوحِي بأن بنية دولتنا الهشة قد تصاب بتصدّع خطير وشرخ عميق، وربما يمكن فهم الواقع على الأرض اليوم على أحد وجوه ثلاثة:
الوجه الأول: أن تكون موريتانيا على فوهة بركان، يتقاسمها جيشان، ويتجاذبها معسكران، في حرب خفية قد تنفجر مواجهةً دموية وحربا أهلية. وإذا صح هذا الوجه لفهم الأمور، فإن جزءا من زمام الأمور السياسية لا يزال بيد أقارب ومقربين من عزيز، يسيطرون على القصر الرئاسي، وعلى كتيبة أمن الرئاسة.. منهم عسكريون ورجال أمن، ومنهم رجال أعمال متنفذون، ومنهم أعضاء في الأسرة يديرون الأمر باعتباره شأنا عائليا. ويتخذ هذا المعسكر بعض القرارات دون أي سند دستوري، ويزور صور عزيز، ويدير اتصالاته الحقيقية والوهمية، وينغمس في تهريب ثروات البلاد استعدادا للأسوأ... وفي مواجهة هؤلاء يوجد قائد الأركان ومعه جل القيادات العسكرية، وقيادة الحزب الحاكم، وهم يمثلون الجانب الظاهر من كتلة جبل الثلج، ويمسكون بأهم مفاصل الدولة سياسيا وعسكريا، لكنهم لا يستطيعون سد فراغ السلطة بشكل كامل بسبب عوائق يفرضها المعسكر المقابل. الوجه الثاني: أن يكون زمام الأمور بيد قائد الأركان الجنرال غزواني، على افتراض أن كتيبة أمن الرئاسة أصبحت تأتمر بأمره.. لكن الرجل ليس في عجلة من أمره، فلديه من التعاطف الشخصي مع زميل دربه عزيز ما يجعله حريصا على الحفاظ له على ماء وجهه، من خلال الحفاظ له على مقعده شكليا إلى نهاية ولايته بعد عام ونصف العام، وعلاجه على حساب الدولة الموريتانية، ثم منْحه تقاعد رئيس سابق دون تبعات.. وسيمنح كلُّ ذلك الجنرالَ غزواني فترة كافية ليرتب أوراقه السياسية: مترشحا للرئاسة بشخصه، أو مرشِّحا لها مَن يأتمر بأمره، على طريقة الجنرالات الجزائريين.
وفي الطريق إلى نهاية ولاية عزيز قد يتخذ الجنرال غزواني غطاء سياسيا مناسبا، مثل تغيير الدستور لاستحداث منصب نائب رئيس يسد الثغرة الحالية دون تطويح صريح بعزيز، أو التوافق مع الأحزاب السياسية المعارضة لعزيز على رئيس مدني مؤقت، أو غير ذلك من وسائل الترقيع التي لن يَعدِم قائد الأركان من السياسيين ورجال القانون والقضاء من يسبغ عليها صبغة الحكم الدستوري. الوجه الثالث: أن تكون فرنسا هي الممسك الفعلي بأهم خيوط اللعبة العبثية في نواكشوط اليوم، وهي التي ستُملي المخرج من المأزق الحالي بما يمكِّنها من التحكم أكثر فأكثر في القرار السياسي الموريتاني، في وقت تموج فيه المنطقة بتحولات تكاد تخرجها من ميراث التبعية لفرنسا، وتحرر إرادة شعوبها من الذلة التي دامت قرنا من الزمان. وتدل زيارات العسكريين الفرنسيين إلى نواكشوط –سرا وعلنا- في الأيام الماضية على أن فرنسا مصرة على بقاء مفاتيح البيت الموريتاني بيدها. لكن لا يبدو أن لديها بديلا يسد مسدَّ عزيز حتى الآن. وربما تعتقد فرنسا اليوم أن بقاء عزيز في السلطة ضعيفا سيجعله أطوعَ وأكثر اعتمادا عليها، فهو إذن أفضل لها من ظهور قائد جديد لم تَعْجِمْ عودَه بعدُ ولم تختبر إرادته السياسية. وفي هذه الحالة ستسعى فرنسا لما لديها من نفوذ على بقاء عزيز في السلطة مهما كان وهَنُه البدني والسياسي. بيد أن خيار بقاء عزيز ولو كان منزوع السلاح والصلاحيات مستبعدٌ تماما، لأن التجربة المريرة التي مرَّ بها عزيز، وما أثير من لغَط حول الانقلاب عليه في غيابه، سيجعله متوجِّسا مرتابا، وسيكون على رأس قراراته –إن عاد إلى السلطة- التطويح بالرؤوس العسكرية والأمنية التي تستطيع التطويح به مهما أبْدته هذه من ولاء ووفاء في غيابه، ثم تحويل موريتانيا إلى مِلْكية عائلية صرفة تأمينا لنفسه من تكرار التجربة.. ومن المستبعد أن يقبل قادة الجيش الموريتاني رجوع عزيز، وهم يدركون الحالة النفسية والمعنوية التي سيرجع بها، وآثار ذلك على مصائرهم. إن موريتانيا تقف اليوم على مفترق طريق: إما أن يجتمع أهل الرأي والحكمة والشوكة فيها على مخرج آمن من الدكتاتورية والاستبداد، يضمن الانتقال إلى الحكم المدني الديمقراطي الشفاف.. ويطرد منطق السيف وقانون الغاب من مسألة تداول السلطة في بلادنا إلى الأبد.. وإما أن ينفجر الوضع في صورة صراع عسكري داخل الجيش، أو صراع اجتماعي يستلهم الربيع العربي ويكون ثمنه الإنساني والسياسي غاليا جدا.. وربما فتح الباب لتسرب العنف الأعمى والإرهاب إلى البلاد بتأثير من عوامل القرب والتداخل مع بعض دول الجوار. ويستلزم الخيار الأول الذي ندعو له مفاصلة نهائية مع الحكم العسكري المتلبس بأثواب زور من الديمقراطية، ووضْع الأسس الصلبة لبناء ديمقراطي حق، يعيد الأمور إلى نصابها، ويمهِّد لإخراج شعبنا من حالة القهر والفقر والاستبداد والفساد التي صبر عليها كثيرا. وليس يعني ذلك بحال إضرارا بمصالح القادة العسكريين الوطنيين، أو تفريطا بخبرتهم وتجربتهم التي يحتاجها الوطن.. وإنما يعني إدراك هؤلاء لمهتمهم ورسالتهم في الحياة.. قادةً لجيش وطني محترف، يخضع للسلطة المدنية الشرعية، وتحكمه قيم الشجاعة والتضحية والفداء، بعيدا عن الانحياز السياسي والفساد الاقتصادي.
لكن هذا الخيار لن يترجح إلا إذا انخرطت أحزابنا السياسية الجادة، وشبابنا الواعي المتوثب، ومنظمات مجتمعنا المدني، ومثقفونا وكتابنا.. في حراك اجتماعي وسياسي شامل، يتواضع على مبادئ الحكم المدني، والتداول السلمي للسلطة، والاعتراف بهوياتنا المتعددة، واحترام كرامة مواطنينا.. على أن يحمل هذا الحراك رسالةً لا لبس فيها لقادة جيشنا ولقادة فرنسا تقول بالخطِّ العريض: "لقد شبَّ شعبنا عن الطوق ولم يعدْ يرضى بالوصاية، ألا فمَن كانت له مصلحةٌ شخصية أو سياسية فليكيِّفْها مع مطامح شعبنا إلى العدل والحرية، ولا يجعلْها نقيضا لمصالح شعبنا، وإلا فإنها المفاصلة ولا شيء سواها.. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون". إن من المثير للأسى حقا أننا أضعنا فرصة ذهبية عام 2005 للخروج من النفق المظلم لم تُتحْ للدول العربية الأخرى قبيل الربيع العربي. وكان من الممكن أن تكون موريتانيا في طليعة الدول العربية ذات الأنظمة الديمقراطية اليوم، لو لم ينقلب عزيز على الرئيس المدني المنتخب سيدي ولد الشيخ عبد الله يوم 6 أغسطس/آب 2008. ولو أننا حافظنا على ذلك البرق الديمقراطي الذي لاح فجأة واختفى فجأة لجنَّبَنا ذلك آلام المخاض الدموي الذي تعيشه دول عربية عديدة اليوم، ولجعَل بلادنا اليوم مثالا يُحتذي، لا بلدا في مؤخرة القافلة السائرة على درب الحرية.. لكن شهوة السلطة لدى بعض القادة العسكريين منعت ذلك التحول السلمي من أن يأخذ مداه، وأرجعتْنا إلى مرحلة الجمود في تطورنا السياسي. وكلنا نتحمل المسؤولية في وأد تلك الديمقراطية الوليدة، حرصا على غايات قصيرة النظر، أو تصفية لحسابات أنانية، أو عجزا عن قراءة فجر الحرية المطل على المنطقة.. لكن الرجوع إلى الحق خير من التمادي بالباطل، وعلينا أن لا نضيِّع فرصة أخرى للانتقال الديمقراطي، أخذا بالحكمة النبوية: "لا يُلدغ المؤمن من جُحْر مرتين". ومهما يكن من أمر، فإن مرَض عزيز لا يعدو أن يكون عرَضا لمرض الدولة الموريتانية، وهو مرضٌ يرجع في جوهره إلى ضياع الأساس التعاقدي النزيه في إدارة شؤون الحكم، ووأد السلطة المدنية على يد السلطة العسكرية، التي تحكم بمنطق الشوكة ودهاء الغرف المظلمة، بدعم من الفرنسيين المتباكين على مواريث الاستعمار من وراء البحار. فهل نتَّسم بالحكمة والشجاعة اللازمتين لشفاء موريتانيا من مرض عزيز؟!