من أجل وطن عادل / الشيخ سيد احمد ولد حيدا

ماتزال بلادنا تستحق بجدارة تسميتها ببلاد السيبة؛ حيث تسيطر عقلياتها على ذاكرتنا الجمعية؛ وتؤطر مؤسساتنا الدستورية ؛ العمومية؛ أحزابنا؛ هيئات مجتمعنا المدني؛ مجتمعنا عموما، مكونات وأفراد.

لقد أدرك الجيل الأول صعوبة تأسيس دولة وطنية بدون حاضنة شعبية منسجمة ومتناغمة على أساس عقد إجتماعي عادل؛ وبدون تجربة سابقة لكيان سياسي؛ و من أجل الخروج من هذا المأزق التاريخي؛ إتفقوا أن يكون قوام الدولة وأسها ومنطلقها ومرجعيتها؛ أهمية بناء الدولةعلى المشترك الديني و التسمية المحايدة  عن الإستقطاب التاريخي؛ و الأنجع من الأنظمة السياسية حينها؛ فكان الإسلام دين الدولة والشعب؛ والتسمية موريتانيا الرومانية بدلا من شنقيط أو المرابطون أو الوالو والو...و النظام الجهوري بدلا عن الملكية أو النظام البرلماني خوفا من ملكية أو تغذية للإنتماءات الحهوية الإنفصالية؛ لتأخذ بلادنا هويتها من اختلاف مكوناتها و شراكة في تسيير أمرها؛ ورفع راية الإسلام السمح.

ولَم يكن ما أنجز قادرًا على الصمود في وجه العسكريين الوافدين على السلطة توا؛ كردة فعل على حرب الصحراء و الضجر من إرادة التغيير الجذري لنظام المؤسسين؛ دون أن يكون لهم مشروعا بديلا.

لقد ارتد قادة الإنقلاب والمتحالفين معهم من المدنيين عن المشروع الوطني التقدمي للرعيل الأول الذي أقام دولة القانون التي حاربت القبلية والجهوبة والعبودية؛ وأنشأت مدرسة جمهورية  تتكافأ فيها الفرص أمام الجميع بغض النظر عن اللون؛ الجنس والمكانة الإجتماعية.

لقد أضاع العسكر كل ذلك؛ من أجل أن يكون السلطان والسلطات للقبيلة؛ المال والوطائف لأعيانها؛ وللمعارضة السجون؛ التعذيب والنصيب الأوفر من الحرمان والقحط؛ فنالت كل الإديولوجيات الفكرية قومية؛ يسارية؛ إسلامية؛ نصيبها كمعارضة من ذلك؛ وعلى الرغم من ذلك كان لها إساهامات كثيرة في خلق وعي يفاضل بين الخيارات السياسية بعيدا عن النظرة القبلية و الجهوية أو الفئوية.

كما أن عسكر الحقبة الديمقراطية لم يكن أحسن حالا - رغم التوجهات الديمقراطية المعلنة- فقد واصل نهج أسلافه من تمكين مواليه؛ الذين حثهم على الإستثمار في الأطر الضيقة؛ لتمرير مسرحياته السياسية خوفا من تهديد الأحزاب السياسية التي انصهرت فيها كل المكونات والتوجهات في مشاريع وطنية جامعة في إطار  وحدة الوطن؛ وحماية مقدساته وأمن شعبه من أجل إنهاء عصر العسكر واستبداده المقيت.

لقد دفعت سياسات الأنظمة العسكرية المتعاقبة إلى إنعدام الثقة في الدولة ومؤسساتها بسبب إستغلالها لتصفية الحسابات من جهة؛ ومن جهة أخرى جعل الأطر الإجتماعية الضيقة هي الفاعلة في كل مرافق الدولة؛ وتتفيه المدنية ومؤسساتها القضائية والإدارية ؛ ومنع الولوج إلى الخدمات العمومية دون وساطة من ولاء أو جهة.

في مثل هذا الظرف؛ وجدت الأحزاب السياسية نفسها بين خيارين؛ إما الضمور بسبب مبادئها أو التنافس مع السلطة على التقرب من المجتمع الضيق؛ ليشهد الحقل السياسي بعد حين إغراقه بأحزاب للمشاركة السياسية؛ وتغييب ممنهج للمشاريع الفكرية عن الحقلين الثقافي و السياسي.

لقد ولدت من رحم هذا الفراغ خطابات تأخذ هي الأخرى من الإنتماء الفئوي مرجعية لخطابها رغبة في الحصول على "الشراكة" التي لم تعد القيم الفكرية والوطنية الجامعة عاملا فيها؛ بل باتت توصف بالتثبيط والخنوع؛ بسبب إستقالة الدولة والقوى الوطنية عن مسؤولياتهم؛ وخنوع المواطن وإرتهانه للمجتمع الضيق.

إن الشعور بالمطلمة التاريخية أو الراهنة أو هما معا نتيجة للنظرة الدونية أو الغبن أو الخوف من المجهول من الطبيعي أن يتولد عنه عنف - قد لايشعر به غير أصحابه- من أجل التحرر من نيرهم بكل الوسائل بغض النظر عن شرعيتها أو مشروعيتها؛ إنه عنف الإعتقاد بإلزامية التحرر  لإثارة الجميع لتحمل مسؤولياته.

إن النضال المتماسك على أساس تنوع المظلمة؛ وتعزيزه بالمؤازرين وتنظيمه في أُطر مدنية مؤسسة؛ وإبعاده عن شكليات عاجزة عن توحيد الصف عند التحدي سيدفع عن النضال وصمه بالجمود و التطرّف؛ وطمس حجية الإقناع 

التي تستمد شرعيتها من تكريم الإنسان لإنسانيته؛ والمساواة معه لأخوته؛ ونيل حقوقه لعدالتها؛ وقيادته للمشروع الوطني لكفاءته ونضجه؛ لنضمن تجسيد مواطنة تخرجنا من الإنتماء الضيق إلى إنتماء وطني واسع يصون لنا هوياتنا بعيدا عن اللونية أو الجهوية؛ وتصون ثوابتنا الوطنية بإعتبارها عنصر قوة في تحقيق المساواة والعدل والديمقراطية.

25. فبراير 2020 - 23:23

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا