بما أن اللغة ترتبط ارتباطا قويا بهوية الأمة في جميع أشكالها وأبعادها ومستوياتها النفسية والثقافية والحضارية الشاملة ، بصفتها الوعاء الحافظ لتاريخها وتراثها وحضارتها وشخصيتها المتميزة، فإن كل مجتمع يدين بعقيدة معينة ، ينبغي أن تكون له نظريته التربوية الخاصة به ، لأن التربية لا تستعار ولا تستورد، بل هي ذات صلة وثيقة بعقيدة المجتمع ومبادئه التي يؤمن بها ، ولا يستطيع أي مجتمع أن يتبني النظرية التربوية لمجتمع آخر دون أن يتخلى عن جزء من عقيدته ومبادئه .
لذلك فلا غرو أن يكون قدرا كبيرا من التشوه قد لحق حياتنا الفكرية والثقافية ، ومنظومتنا التعليمية ، بسبب التربية المستعارة ، والاستلاب اللغوي والحضاري ، والخلود المطلق في الطرف السفلي لثقافة الاجنبي ، والارتباك والتردد على مستوى الأغراض والاختيارات التي تنظم مسار التعليم في مختلف الشعب والمراحل ، وهذا لا يمكن تجاوزه إلا إذا تشبعت منظومتنا التربوية من الروافد المستمدة من ديننا الاسلامي الحنيف ، وتم تكييف الموروث الثقافي والأخلاقي لمختلف المكونات العرقية في بلادنا وفق النقاط المشتركة بينها ، مع تحديد كافة مواضع الاتفاق ، لأن ذلك يساعد على تقليل الفجوة ، ويوثق الصلة بين كافة الأطراف .
كما أن الرجوع الى الفكر العربي الاسلامي الاصيل في بناء الفلسفة التربوية يشكل صمام أمان في وجه موجة إفساد عقول الشباب ، والغزو الفكري والثقافي ، والتفكير بعقلية الغرب الدخيلة تحت مظلة العولمة وحرية الاديان وإتاحة المغريات وثورة المعلومات ، التي فتحت الباب على مصراعيه للانحراف والاستلاب العقدي والأخلاقي بدون ضابط ولاحياء .
ومن هنا فإن المشتركات الكثيرة التي تربط العلاقات الحميمة بين مكونات شعبنا لايمكن تجاوزها ولا الاعراض عنها ، ومعلوم أن من أهم المشتركات الخالدة لهذه المكونات ، هي الدين الإسلامي الحنيف ، واللغة العربية ، والوحدة الوطنية .
غير أن هذه الوحدة تبقى دائما مهددة ومعرضة لأكبر التحديات إذا لم يتم الارتقاء بمستوى القدرات في مجال اللغة العربية وتجاوز ما نعانيه اليوم من سطحية وضيق أفق، عن طريق آليات التربية والإعداد الاجتماعي للأجيال الناشئة في فضاء ثقافي محدد ، يتم من خلاله رفد الرصيد اللغوي لغير الناطقين بالعربية بغية تشكيل نمط التفكير والوعي و الوجدان والذاكرة الفردية والجماعية ، لأن من أهم الأهداف التي تسعى التربية الى تحقيقها هو تكوين أجيال ونخب تستجيب للمتطلبات الوطنية والقومية وتساهم في بناء النسيج الاجتماعي وتخدم الوحدة الوطنية من خلال لغة مشتركة تعتمد رؤية شمولية للعالم تشمل الذات والآخر والواقع الطبيعي والاجتماعي ، كما أنه عن طريق هذه اللغة المشتركة يتم التواصل وتبادل المعلومات والأفكار والقيم والمبادئ والخبرات والمعتقدات والرموز، وتستخدم أساليب التفسير والتبرير وإنتاج وإعادة إنتاج المعاني والتصورات والمواقف والأحكام.. وإلى هذه المفاهيم الأولى ترتكز أية مفاهيم تالية يمكن للمواطن أن ينتفع بها في مراحل لاحقة ، لأن اللغة في أي مجتمع هي الواجهة الحاملة والحاضنة للملامح الأساسية للهوية ، ومن خلالها يتشكل معنى الانتصار والانكسار والمحبة والكراهية والألم والسرور، ومن منظورها تتحدد مفاهيم المباح والمحظور ، وانفتاح أبواب الفهم أو انغلاقه .
وبما أن الاصلاحات الكثيرة التي شهدها قطاع التعليم في بلادنا ، لم تنصف اللغة العربية ، ولم تستطع الخروج بنظامنا التعليمي من الأزمة الشمولية المتعلقة بالوحدة الوطنية ، ولم ترق بالتعليم الموريتاني ليصبح أداة فعلية لتجاوز واقع التخلف والتبعية ، وتحقيق مجتمع المعرفة والتقدم ، حيث تجلت الأزمات الفكرية والثقافية والاجتماعية والقيمية ، فإن الكثير من المواطنين الحريصين على وحدة البلاد يعتقدون أن أي شعب لايتواصل بواسطة لغة مشتركة لن تكون بينه أواصر مودة ، ويبقي نسيجه الاجتماعي عرضة للتمزق ، لذلك لن تتجاوز موريتانيا هذا المأزق ـ حسب تلك الآراء ـ إلا إذا تخلت مطلقا عن المحاباة في سياساتها التربوية ، وفرضت على كافة التلاميذ والطلاب الموريتانيين في جميع المراحل الدراسية الحصول على 50% في كل من مادتي التربية الإسلامية واللغة العربية كشرط للتجاوز والحصول على شهادات التعليم الأساسي والثانوي والجامعي في بلادنا .
ذلك أن الإيمان مناط النجاة ، وأن الإسلام دين يقوم على العقيدة الراسخة والعبادة الخالصة لله الواحد الأحد، وهو دين يدعو الى التفكير والنظر ، ويحث على الأخلاق الكريمة والعلم والعمل ، وعليه فإن التربية الإسلامية تحتل مكانة خاصة في العملية التربوية ، كونها الوسيلة العملية الوحيدة في بناء وتكوين أفراد المجتمع ، وذلك من خلال ما تتضمنه من أبعاد روحية وأخلاقية تجعل المتعلم يعيش في ظلها حياة ملؤها السعادة والاطمئنان ، ويشعر بالراحة النفسية والاجتماعية ، لأن من خصائص التربية الإسلامية ، أنها ربانية المصدر، وهذه الخاصية لها أهمية كبرى حيث يثق المتعلم ، أنها من عند الله ، الذي خلق الإنسان ويعلم ما ينفعه وما يضره ، ويترتب على ذلك بناء تصور فكري سليم عن الكون والحياة ،لأن التربية الإسلامية يقينية العلم ، منزهة عن الخطأ البشري ، وثابتة الأسس لأن مصدرها ثابت غير خاضع للتحريف والتغيير والتبديل ، وليس معنى ذلك أنها تتصف بالجمود ، أي أن الثبات فيما يخلد ويبقى والمرونة فيما يخلد ويتطور ، كما أنها تتصف بالشمول ، لأنها تشمل الإنسان والكون والحياة ، حيث لم تغفل النصوص الشرعية رعاية أي جانب من جوانب الشخصية الانسانية سواء كانت دينية أو دنيوية ، ومع ذلك فإن التربية الإسلامية تعطي المتعلم شعورا بأنه مخلوق مكرم استخلفه الله لعمارة الأرض ، وهذا يدفعه إلى الفاعلية والايجابية السوية .
أما اللغة العربية فتأتي أهميتها من كونها لغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ، وبذلك تُعد مفتاح الأصلين العظيمين ، الكتاب والسنة ، فهي الوسيلة الوحيدة للوصول إلى أسرارهما ، وفهم دقائقهما ، ومع ذلك فإن اللغة العربية ذات ميزات عديدة ، فهي أوسع اللغات وأصلحها ، ولها جذور متناسقة لا تجد لها مثيلا في اللغات الأخرى ، كما أن البيان الكامل لا يحصل إلا بها لقوله تعالى ﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ فدل ذلك على أن سائر اللغات دونها في البيان.
يقول أمير المومنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه ـ : "تعلموا العربيةَ فإنها من دينكم "، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " فإن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب؛ فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب،.. وأن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدينِ تأثيرا قويا بينا، ويؤثر أيضا في مشابهة صدرِ هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق".
أماالعلامة القطب التقي لمرابط محمذن فال بن متالي فيقول:
تعلم اللغة شرعا فضـــل عن التخلي لعبادة الجلي
يؤخذ ذا من قوله وعلما آدم الاسماء الزم التعلما.
وهذا ما يؤكد على المربين وصناع القرار أن يعملوا بجدية على فرض تعلم اللغة العربية في المدارس الوطنية لكافة الشعب ، وفي جميع المراحل ، مع أن تعليمها في المدارس والعمل بها في الإدارة هو في حد ذاته ، مجرد إقرار للمادة 6 من الدستورالموريتاني ، التي تنص على أن اللغة الرسمية هي العربية .