يحكى أن عجوزا لبست ثوبا رثا، وحملت معها سلة للبيض، ووقفت أمام الطابور الطويل الممتد من أمام شباك البنك، وقد كان ذلك في أول يوم من الشهر، حيث جرت العادة أن تحدث زحمة كبيرة أمام شباك البنك، في مثل ذلك اليوم من كل شهر.
عندما وصلت العجوز إلى الطابور، سألت ببراءة : هل يباع البيض هنا؟
كان أغلب من في الطابور الطويل بحاجة إلى أن يسرق ابتسامة من نكد الحياة، بعد ساعات طويلة من الوقوف في طابور ممل. ترك المصطفون في الطابور مكانا متقدما لصاحبة سلة البيض، وانتظروا المشهد الساخر، أي أن تقف العجوز أمام عامل البنك، وتطلب منه أن يبيعها بيضا.ولكن المفاجأة أن العجوز عندما وصلت إلى الشباك أخرجت من ثيابها الرثة شيكا، وقدمته لعامل البنك، وسحبت مبلغا من المال، ولتودع من بعد ذلك المصطفين في الطابور، وذلك من قبل أن تعود من حيث أتت، تاركة كل من في الطابور في ارتباك شديد.
لقد أراد المصطفون في الطابور أن يسخروا من العجوز، ولكن العجوز كانت هي في النهاية من سخر من المتواجدين في الطابور.
في الرابع عشر من أكتوبر سافر الرئيس محمد ولد عبد العزيز إلى فرنسا لإكمال علاجه، بعد إجراء عملية عاجلة في المستشفى العسكري. وعندما وصل الرئيس إلى فرنسا قرر أن يتخلص من كل معاونيه، وأن يحجب كل أخباره، ولم يعد يُسمع عنه إلا بعض التسريبات التي كانت تثير من الشكوك أكثر مما تطمئن.
وترك الرئيس الشائعات تتناسل وتتناسل، حتى كاد الجميع أن يتيقن من عجزه، لدرجة أن أحد معارضيه أقسم على ذلك العجز، ثم فجأة ظهر الرئيس وهو يمشي على قدميه، ويلوح بيديه، ويتحدث بصوت مسموع، في يوم لا يفصله إلا يوم واحد عن يوم المعارضة الموعود.
إنها قصة العجوز تتكرر، إنها نفس حركتها المسرحية يتم إعادة استنساخها، ولكن بإثارة أكثر، وبغرابة أشد، ومن طرف رئيس جمهورية.
لقد "لعيها الرئيس صح"، فأوقع خصومه في حيرة شديدة، وفي ارتباك فظيع.
ولكن، دعونا نطرح السؤال التالي : هل يجوز لرئيس جمهورية أن يتصرف بطريقة العجوز صاحبة سلة البيض؟ بالتأكيد لا، فأخبار صحة رئيس الجمهورية ليست ملكا خاصا له، يغامر به كما يشاء، ولا يجوز للرئيس ـ بأي حال من الأحوال ـ أن يحجب وضعيته الصحية عن شعبه، ولشهر كامل، حتى ولو كان ذلك لغرض توجيه ضربة قاسية لخصومه السياسيين، لأن مثل ذلك الحجب قد جعل الشعب ـ بنخبه وبعامته ـ يقع فريسة لسيل عارم من الشائعات التي لم يكن بالإمكان التحكم في البوصلة التي تحدد اتجاهها وتحركها.
لم يكن من الجائز للرئيس أن يتصرف بطريقة صاحبة سلة البيض، ولم يكن بحق له أن يتلاعب بأعصاب الشعب الموريتاني، ولشهر كامل، ولكن في المقابل، لا بد من الاعتراف بأن هذه الطريقة الغريبة التي تصرف بها الرئيس، كانت لها إيجابيات عديدة، تستحق أن نتوقف عندها.
وقبل التوقف عند تلك الإيجابيات أرجو أن تسمحوا لي بأن أفتح قوسا لأجيب على سؤال كنت قد وعدت في مقال " سأحدثكم عن صحة الرئيس" بأن أجيب عليه.
يقول السؤال: لماذا أصر المعارض الإمام الشافعي على أن ينقل للموريتانيين شهادة الرئيس النيجري حول تحسن صحة الرئيس عزيز في وقت كان فيه أغلب الموريتانيين قد اقتنع بأن الوضعية الصحية للرئيس قد أصبحت في مرحلة حرجة؟
أعتقد بأن الجواب قد أصبح الآن واضحا لكم، لقد حاول الإمام الشافعي أن ينبه الطابور إلى أن العجوز لا تريد بيضا، وإنما جاءت لتسحب راتبها، ولكن المشكلة أن الطابور لم يكن ليصدق الإمام الشافعي في تلك اللحظة، ولم يكن ليشك في العجوز، فما كان من العجوز إلا أن واصلت تنفيذ خطتها الذكية.
والآن ما هي الدروس والعبر التي يمكن أن نستخلصها من قصة العجوز والطابور؟
بالتأكيد هناك الكثير من الدروس والعبر التي يمكن أن نستخلصها، إذا ما تأملنا ردود أفعال كل المتواجدين في الطابور أثناء تخفي العجوز، ولكننا في هذا المقال سنتوقف عند درسين فقط من تلك الدروس الكثيرة.
بدءا دعونا نقسم الطابور إلى طابورين : طابور أغلبية، وطابور معارضة، وذلك من أن أجل أن نأخذ عبرة أو درسا من كل طابور.
طابور الأغلبية: لقد صمت طابور الأغلبية أثناء احتجاب الرئيس، صمتا طويلا، وهو سيصرخ كثيرا في الأيام القادمة بعد ظهور الرئيس بالصوت والصورة.
لن تسمعوا شيئا في الأيام القادمة بسبب صراخ وضجيج طابور الأغلبية، وعليكم أن تتفهموا ذلك، وعليكم أن تتحملوه أيضا. إن الأغلبية ستحاول أن تعوض في يوم السبت القادم شهرا كاملا من الصمت المريب.
والغريب أن هذه الأغلبية التي ستصك آذان الجميع في الأيام القادمة، بخطبها وببياناتها، وبمسيراتها، وبتصفيقها لم تفعل أي شيء من ذلك خلال شهر كامل.
هذه الأغلبية لم تنظم مسيرة واحدة، حتى بيانها المكون من ست وعشرين سطرا، والذي نشرته بمناسبة أحداث غزة، أصرت على أن لا تذكر فيه أهم انجاز للرئيس محمد ولد عبد العزيز، ألا وهو قطع العلاقات مع العدو الصهيوني، مع أن المقام كان يستدعي ذكر ذلك، والمناسبة كانت تفرضه، والوفاء للرئيس المريض كان يستوجبه.
على الرئيس أن يعلم بأن أغلبيته قد تبخرت خلال الشهر الماضي، وأن الستمائة ألف مناضل في حزب الاتحاد من أجل الجمهورية عجزوا في مجملهم أن يقوموا بما قامت به نساء فقيرات غير منخرطات في أي حزب سياسي داعم.
إنهن نساء فقيرات جئن للرئاسة لكي يبلغن عن بعض المظالم، ولكن لما أصيب الرئيس قررن أن يبدلن اعتصامهن من اعتصام لرفع الظلم عنهن، إلى اعتصام متضامن مع الرئيس في مرضه.
نساء فقيرات من حي شعبي، لا صلة لهن بالعمل السياسي، ولكنهن مع ذلك تمكن من فعل ما لم تتمكن من فعله كل نساء الاتحاد من أجل الجمهورية.
وما يقلقني هو أن يتجاهل الرئيس النساء الفقيرات اللواتي اعتصمن لأسابيع تضامنا معه، وينشغل بعد قدومه باستقبالات وبمبادرات نساء الاتحاد من أجل الجمهورية. وما يقلقني أكثر هو أن يكون الرئيس لم يستخلص العير من هذه المحنة التي ألمت به، وعموما فإني أهنئه من كل فلبي بتماثله للشفاء، وأعده بأني سأعود إلى كتابة الرسائل المفتوحة التي كنت قد قطعتها في وقت سابق، وأتمنى أن يكون قد أصبح الآن أكثر استعدادا للاستماع لغير المصفقين.
ولا يفوتني هنا أن أبلغ للرئيس استيائي، وهو استياء تشاركني فيه غالبية الشعب الموريتاني، من استخدامه للغة الفرنسية في أول حديث له بعد شهر من الغياب، خصوصا أن ذلك كان في أيام معدودات من قبل الاحتفال بذكرى الاستقلال.
كان من الأسلم أن يستدعي الرئيس صحفيا موريتانيا ووسيلة إعلام وطنية لإجراء أول مقابلة معه بدلا من إجرائها مع قناة أجنبية.
طابور المعارضة: أتذكر بأني وجهت طلبين ملحين لمنسقية المعارضة خلال الشهر الماضي، كان أولهما بمناسبة تعليق أنشطتها بعد حادثة إطلاق النار على الرئيس، ولقد هنأت المعارضة على ذلك الموقف النبيل، وطلبت منها أن تستمر فيه حتى يشفى الرئيس بشكل كامل، ثم بعد ذلك تستقبله في المطار لحظة قدومه من رحلة الاستشفاء بمسيرة حاشدة تطالب بالرحيل. أما الطالب الثاني فقد يبدو أكثر غرابة، حيث طلبت من أحزاب المنسقية أن تعلق لافتات على كل المقرات التابعة لها، وأن تتمنى من خلال تلك اللافتات شفاءً عاجلا للرئيس محمد ولد عبد العزيز.
طبعا لم تستجب المعارضة للمطلبين، ورغم أني لازلت أعتقد بأنه كان بإمكان المعارضة أن تحقق مكاسب سياسية كبيرة لو استمرت في إضفاء بعد أخلاقي على كل أنشطتها خلال غياب الرئيس، أو أن ذلك كان سيمكنها ـ على الأقل ـ من تجنب الخسارة التي تكبدتها، فرغم قناعتي بذلك، إلا أنه لا يمكنني أن ألوم اليوم المعارضة لأنها لم تواصل تجميد أنشطتها، فلا يعقل أن تجمد أحزاب معارضة كل أنشطتها خلال شهر كامل لم ينشر فيه أي إيجاز عن صحة الرئيس.
لا يمكنني أن ألوم المعارضة على عدم الاستمرار في تجميد أنشطتها، ولكن ـ في المقابل ـ يمكنني أن ألومها على أنها غيرت شعاراتها المرفوعة اعتمادا على شائعات ومعلومات غير مؤكدة.
ويمكنني أن ألومها على أنها لم تعط الأولوية للبعد الأخلاقي في أنشطتها السياسية، خاصة وأننا نعيش في مجتمع انهارت فيه القيم والأخلاق لدى أغلب نخبه السياسية، وأصبحت الأخلاق هي أول شيء يبحث عنه المواطن في نخبه السياسية.
كان على المعارضة أن تعلم بأن التغيير الذي لا يأتي نتيجة لتراكم عمل نضالي وتوعوي متواصل، لن يكون فيه خيرا، وأن أي تغيير تحدثه رصاصة صديقة أو شقيقة، أو يحدثه انقلاب على انقلاب لن يكون هو التغيير المنشود.
وعلى المعارضة أن تعلم بأن من بين أهم الأسباب التي أدت إلى عدم حصول تغيير في هذا البلد هو أن نَفسها في النضال لم يكن طويلا. ففي الخمس سنوات الأخيرة تم ارتكاب العديد من الأخطاء الإستراتيجية، ولم يسلم أي حزب من أحزاب المعارضة من تلك الأخطاء.
فحزب التحالف الشعبي كان هو السباق في ارتكاب الأخطاء، حيث دعم في الشوط الثاني مرشحا للانتخابات الرئاسية لم يكن في سجله أي تضحيات قدمها في سبيل إحداث تغيير في البلد.
و اتحاد قوى التقدم وتواصل قررا أيضا في لحظة حساسة أن ينسحبا من المعارضة للمشاركة في حكومة رئيس لم يأت من رحم المعارضة.
أما التكتل وحاتم فقد اعترفا بانقلاب السادس من أغسطس، وقاما بدعمه في لحظة حرجة جدا.
ختاما، على المعارضة أن تستثمر هذه اللحظة، وأن تستغلها في مراجعة أساليبها وأنشطتها وتاريخها النضالي، لكي تستخلص ما يمكن استخلاصه من دروس وعبر، فطريق التغيير طريق شاق وصعب، ولن يبسط عليه أي سجاد أحمر.
تصبحون على معارضة طويلة النفس..