لا يستحق الشعب الموريتاني البريء هذا العذاب المتواصل فكلما راوده أمل في استعادة إرادته التي غصبت في العاشر يوليو 1978م على يد ضباط هاربين من حرب الصحراء ،فاجأه كبار ضباط العسكر بوأد ذلك الأمل.
لم تفلح لجنة العسكر للإنقاذ الوطني في إصلاح الأمور في موريتانيا عندما اغتصبت السلطة وأزاحت المؤسس الأول الأستاذ المختار ولد داداه فقد تتالت الانقلابات والتصفيات الجسدية بين كبار الضباط حيث توفي جدو ولد السالك في ظروف غامضة وعزل ولد محمد السالك واستبدل بولد أحمد لولي وجاء ولد بوسيف وأزاح العقيد لولي قبل أن تسقط به طائرته في ظروف غامضة وجاء ولد هيدالة فكنس كبار زملائه وحكم بإعدام مجموعة مارس العسكرية التي سميت تاريخئذ "الكتل الجامدة" وملأ السجون بالمتهمين والبرءاء وأسس هياكل التهذيب بالمخبرين والوشاة.
وجاء الجنرال لاكاز ليزيح ولد هيدالة ويفتح الباب أمام قائد الأركان معاوية ولد الطايع الذي حكمنا عقدين نصفهما عسكري والنصف الآخر شبه عسكري ملتحف بديمقراطية ديكور متعقلة وثقيلة الظل.
ومنانا العسكر بعد حراك لابول بأننا سندخل عهد الديموقراطية ثم وأد العسكر ذلك الأمل بسد الباب أمام التداول السلمي للسلطة وكنا نسمع الإذاعة الوطنية تؤكد أن الشعب الموريتاني الذي كان الحكام يعتبرونه أيامئذ قطيع نعاج ،لم يصل لمستوى يؤهله لممارسة الديموقراطية.
وحاول ضباط فرسان التغيير الإطاحة بنظام ولد الطايع سنة 2003 وفشلوا في ذلك وإن كانوا قد قطعوا أوصال نظامه الذي كان قد تآكل حينئذ،وقد توفي العقيد ولد انجيان في غمار ذلك التناحر.
وكانت نهاية ذلك النظام في أغسطس 2005م على يد فريق من ضباط المكيفات رافض لحرب مطاردة تنظيم القاعدة التي كان ولد الطايع يسعى من ورائها لإشغال الضباط عن نظامه ولإبعاد مسلحي القاعدة عن الحدود.
وأشرف المجلس العسكري للعدالة والديموقراطية على مرحلة انتقالية فرضت الظرفية عليها أن تكون متقنة بعض الشيء ؛وأسفرت المرحلة عن دستور 2006 وعن انتخابات 2007 ووعد الضباط شعبنا بأن هذه الانتخابات هي نهاية الحكم العسكري قبل أن يئدوا ذلك الحلم سنة بعد ذلك عندما انقلبوا في أغسطس 2008 على الرئيس المنتخب واستخدموا الممحاة وقلم الرصاص للعبث بالدستور ولإخضاعه للجزمة العسكرية مع أنه حصيلة مقدسة للإجماع الوطني وتجسيد لإرادة شعب بأكمله.
لقد أزاحوا بقوة السلاح كل البناء ووأدوا ذلك الأمل وتآمروا مع المستعمر ومع أعداء شعبنا الواقفين في وجه طموحاتنا في الحرية والاستقلال فنظموا بالتزوير والرشاوى انتخابات يوليو 2009 التي تمخضت عن انتخاب محمد ولد عبد العزيز أعتى ديكتاتور عرفته موريتانيا طيلة المرحلة العسكرية.
فقد تملص من الإجماع الوطني وأسس حكما فرديا يختزل الدولة كلها في شخصه ،حكما يعالج الفساد بفساد أشد منه ، حكما يحرسه ضباط منتفعون بقوة السلاح وينافح عنه سياسيون نفعيون بالتصفيق الأعمى ،حكما قضى على مؤسسات الدولة وذبح شرعيتها في وضح النهار.
هكذا عبر هذه المسيرة لعب ضباط الجيش بشعبنا على مدى واحد وثلاثين عاما من أصل اثنين وخمسين عاما هي عمر دولتنا،وكنا جميعا في هذا العذاب الأبدي نتفرج على كبار الضباط وهم يتداولون السلطة فيما بينهم ويتقاسمون ثروات شعبنا دون تورع.
وكنا نعتقد أنه إذا تقاعد كهول الضباط الذين دخلوا الجيش دون تعلم بعد أن ملوا السلطة وجمعوا الأموال ،فإن ضباطا متنورين جددا سيصعدون للواجهة وسينهون عذابنا الأبدي بالمساعدة في بروز نظام سياسي مدني آمن يكون جيشنا فيه جمهوريا حاميا للسيادة غير ملوث بألاعيب السياسة.
وكم كانت المفاجأة عندما لاحظنا أن العسكر لم يكتفوا بالعقود الثلاثة التي حكمونا فيها برداءة بالغة في الأداء ولم يشبعوا بعد من جمع الأموال وإيداعها في الخارج وبناء واقتناء الفيلاهات.
وكم فوجئنا بأن هؤلاء الضباط يتلذذون بتعذيب شعبنا وبمواصلة سلب إرادته.
وقد أظهرت رحلة عزيز العلاجية أن ضباط الجيش متضامنون مع عزيز في هذا التآمر فقد فرضوا استهتارا بالشعب ،تكتما كاملا على حادثة الاعتداء على عزيز وتولوا سلطاته التي لم يفوضها لأحد بعد سفره وجمدوا نشاط الحكومة وحياة الدولة وعطلوا مقتضيات الدستور الذي ينص على ملء الفراغ الذي استمر أربعين يوما خضع فيها عزيز لعمليات وفترات من التخدير الكلي.
وها هو الجنرال يعود قبل شفائه التام من الرصاصة الغامضة ليواصل تعذيب هذا الشعب البريء بسياساته الخرقاء حيث استهل عمره الجديد بتوثيق الصلات مع الفرنسيين الذين هم بيمينهم ويسارهم سدنة وحماة النظام العسكري في موريتانيا.
ليس أمام الشعب الموريتاني اليوم وثقتنا فيه كبيرة ،إلا الخروج من الصمت السلبي والتضحية لانتزاع إرادته وحريته من قبضة العسكر..وإذا كانت منسقية المعارضة تسعى بالفعل لفرض الانتقال الديمقراطي فإن عليها أن تواجه مرحلة العمر الإضافي لنظام عزيز وهي شبيه بالعمر الإضافي لنظام ولد الطايع بعد ثورة ولد شيخنا وصالح ولد حننه،بقدر كبيبر من التضامن وتوحيد الكلمة والاعتصامات المتواصلة حتى الخلاص.