تابعت باهتمام كبير خطاب الرئيس، وخرجت بعد متابعته بجملة من الملاحظات اللافتة التي تستحق أن نتوقف عندها، وذلك لأنها هي التي تمثل الجديد في ذلك الخطاب، حتى وإن كان ذلك الجديد لم يكن هو الجديد الذي كان يتوقعه الموريتانيون.
لقد توقع الموريتانيون أن يأتيهم خطاب الرئيس بالجديد، فجاءهم الخطاب بالجديد، ولكنه كان جديدا غير منتظر، ولأنه لم يكن هو الجديد المنتظر، فربما يجعله ذلك يمر دون أن يُشعر به، وحتى لا يحدث مثل ذلك، فقد ارتأيت أن أخصص هذا المقال لإبراز الجديد المتخفي في ثنايا خطاب الرئيس، وسيتم ذلك من خلال الملاحظات التالية:
الملاحظة الأولى: لقد اختفت ـ وبشكل كامل ـ كلمة جديد من كل خطاب الرئيس، كما اختفى شعار "موريتانيا الجديدة"، وشعار "تجديد الطبقة السياسية" من كل الخطاب، هذا فضلا عن اختفاء شعار "الحرب على الفساد" و شعار "التغيير البناء" وشعارات أخرى ارتبطت في أذهان الموريتانيين بموريتانيا الجديدة .
وبطبيعة الحال فإن اختفاء مثل تلك الشعارات، والتي لم يذكر أي منها ولا بالإشارة، في كل خطاب الرئيس يعد جديدا في حد ذاته، وربما يكون تجاهل تلك الشعارات هو نتيجة لتحول يعيشه الرئيس، لم تضح ملامحه بعد، وإن كان العنوان الأبرز لهذا التحول هو أن "موريتانيا الجديدة" لم تعد تمثل أي شيء في برنامج الرئيس، أو أنها أصبحت بالنسبة له حلما يستحيل تحقيقه.
الملاحظة الثانية : لقد غابت نسبة 70% (النسبة الشهيرة) عن كل خطاب الاستقلال، ولم يشر الرئيس في خطابه على النسب التي تحققت من برنامجه الانتخابي. وربما يعود ذلك إلى أن الرئيس قد اكتشف متأخرا بأن تكرار نسبة 70% دون زيادة منذ إطلاقها، قد يعطي انطباعا بأن الحكومة قد توقفت نهائيا عن العمل وعن الإنجاز منذ تلك اللحظة التاريخية التي تمكنت خلالها من إنجاز 70% من البرنامج الانتخابي لرئيس الفقراء. أما القفز في الوقت الحالي، إلى نسب أعلى من نسبة 70% فهو قد يثير سخرية المواطنين، لذلك فلم تحسب النسب المتحققة من برنامج الرئيس، وتم تجاهلها في هذا الخطاب. وربما سيستمر ذلك التجاهل، لأن الحديث مستقبلا عن نسبة 70% سيعني أن الحكومة قد توقفت تماما عن الانجاز منذ انجازها لتلك النسبة. أما زيادة نسبة المنجز من برنامج الرئيس إلى 80% أو إلى 90% فإنه سيثير سخرية الشعب، وسيزيد من تهكمه وتنكيته حول مصداقية تلك النسب.
الملاحظة الثالثة: بدا تسلسل فقرات الخطاب غريبا أو جديدا إذا شئتم، رغم أنه يعكس ـ وبدقة كبيرة ـ حقيقة الواقع الذي تعيشه موريتانيا منذ 10 يوليو 1978 وحتى اليوم. لقد بدأ الخطاب بالعسكر، وانتهى بالشعب، وذلك بعد أن تم تخصيص أول فقرة من الخطاب للجيش وللإنجازات التي حققها، أما آخر فقرة من الخطاب فقد تم تخصيصها لشكر الشعب الموريتاني، والذي تأخر الرئيس كثيرا في شكره، ليس في خطاب الاستقلال فحسب، وإنما أيضا في كل الحوارات التي أجراها الرئيس بعد تماثله للشفاء.
وإذا ما نظرنا إلى القوات المسلحة بوصفها قطاعا كغيرها من قطاعات الدولة، فهنا سنجد كذلك بأن الانجازات المرتبطة بها قد جاء ذكرها في أول الخطاب، ثم تلتها الإنجازات المتحققة في قطاع الحالة المدنية، ثم جاءت القطاعات الأخرى، وذلك من قبل أن يختم الرئيس خطابه بقطاع الصحة وبدولة القانون.
والحقيقة أن الرئيس قد وُفق تماما عندما أخر قطاع الصحة في خطابه، فقد تزامن تسجيل الخطاب مع موت طفلين في مقاطعة أركيز، وهو ما كشف شيئا يسيرا من المشاكل الكثيرة التي يتخبط فيها ذلك القطاع. أما الحديث عن دولة القانون بعد الحديث عن قطاع الصحة المريض فهو يكفي لوحده، لكي نعرف مدى ضآلة ما تحقق من انجاز على صعيد بناء دولة القانون.
ولعل الجديد الذي يمكن إبرازه من خلال هذه الملاحظة، هو أن الرئيس لم يتحدث عن الانجازات في قطاع الطرق، وكانت تلك سابقة من نوعها. فمن المعروف أن تشييد الطرق ظل يشكل دائما الموضوع الرئيس في أي خطاب رسمي، حتى وصل الأمر في وقت من الأوقات إلى أن أصبحت الطرق المشيدة هي أول انجاز يتحدث عنه وزير التوجيه الإسلامي، أو وزير البيئة، أو وزير العدل، أو أي وزير آخر إذا ما أراد أن يتحدث عن الانجازات المتحققة في قطاعه.
ومن اللافت في هذه الجزئية من الخطاب أن الرئيس لم يتحدث عن قطاع العدل في كل الخطاب، حيث لم يذكر كلمة القضاء بدلالتها المرتبطة بالعدل، ولا لمرة واحدة. وهذا من الجديد الذي جاء به خطاب الاستقلال، خصوصا أننا لا زلنا نذكر بأن توزيع العدالة بين المواطنين، وتسليم كل مواطن "نصيبه من العدل" كاملا غير منقوص، كانا من أهم الوعود التي تم إطلاقها بعد السادس من أغسطس.
الملاحظة الرابعة : ومن الجديد أيضا اختفاء كلمة "جهود جبارة" من كل فقرات الخطاب، حيث لم تذكر هذه الكلمة إلا مرة واحدة، وكان ذلك عند الحديث عما تحقق من انجازات في مجالي الطاقة والمياه رغم أن هذه الكلمة كانت تتردد كثيرا في كل الخطابات الرسمية. وبالتأكيد فإن الكثير منكم لا يزال يذكر الانقطاعات المتكررة في الكهرباء بعد أن أعلن الرئيس عن تفكير الحكومة في تصدير الفائض من الكهرباء إلى الدول المجاورة، وهذا ما يؤكد أن كلمة "جهود جبارة" تم وضعها في المكان المناسب لأنها جاءت في الخطاب لتصف حجم الإنجازات المتحققة في قطاعي الطاقة والمياه!!
الملاحظة الخامسة : لقد وقع خلط كبير في الأزمنة، ومع أن ذلك الخلط ظل يحدث باستمرار في كل الخطابات الرسمية، إلا أن الجديد هنا هو أنه هذه المرة قد حدث يشكل صريح وواضح جدا.
لقد تحدث الرئيس في خطابه عن منتديات التعليم وكأنها قد اكتملت، وطًبقت نتائجها. وتحدث أيضا عن مياه مقطع لحجار وكأنها قد تدفقت مع أن الحقيقة ليست كذلك.
تلكم كانت بعض الملاحظات السريعة التي حاولت من خلالها أن أترصد الجديد في خطاب الاستقلال، ذلكم الخطاب الذي لم يأت بأي جديد مما كان ينتظره الشعب الموريتاني، حيث جاءت الزيادة في الأجور مخيبة للآمال، وحيث تم تجاهل الأزمة السياسية يشكل كامل، وهي الأزمة التي كان الكل يتوقع أن يخصص لها الرئيس جل خطابه، وأتمنى أن يستغل الصحفيون المؤتمر الصحفي المرتقب فيركزوا عليها ـ دون غيرها ـ في أسئلتهم.
ولعل من أكثر ما استوقفني في هذا الخطاب هو أن المحنة الصعبة التي مر بها الرئيس، بعد إطلاق النار عليه، والتي كان من المفترض أن يكون لها تأثيرا كبيرا عليه، وعلى أسلوبه في الحكم، لم تنعكس على الخطاب، ولا حتى على أي فقرة من فقراته، أو أي كلمة من كلماته.
تصبحون على الجديد المنتظر...