تُعتبر الرعاية الصحية إحدى كبريات مقاصد الاجتماع البشري، ويمكن إدراجها فى إطار مقصد "حفظ النفوس" الذى جعل منه الشرع الحنيف أحد مقاصده الكبرى، باعتباره ثانى "الضروريات الخمس" حسب ترتيب الفقهاء.
فلا غرو أن تجعل الدول المعاصرة من "الرعاية الصحية" وسيلة للتأكيد على نفسها بإسداء مثل هذه الخدمة الجليلة إلى مواطنيها. بل فوق ذلك، نجد الدول الناجحة تجعل منها إحدى الأولويات والأهداف الكبرى التى تسعى إلى تحقيقها، كمهمة أساسية من مهماتها، دون أن تنظر إليها بأنها مجرد إنفاق أو محض كُلفة.. بل هي استثمار فى الرأسمال البشري، يستحق أن تُعبأ له الإمكانيات والموارد، نظرا لما له من مردودية مشهودة.
ولعل ما شهدناه من استنفار للحكومات فى شتى أنحاء العالم وتعبئة للموارد الكبيرة للتصدى لوباء "كورونا المستجد" ومن إجراءات قوية لم تتردد فى ضرب العولمة العتيدة فى محز، حيث عَطلت حركة النقل الجوي وشَلت أطرافا هامة من التجارة العالمية... تلك الإجراءات الإستثنائية التي نجم عنها تراجع العديد من قطاعات الأعمال واضطرابٌ كبير واختلال فى سلسلة التزويد العالمية على مختلف الأصعدة، وانهيار كبير لأغلب أسواق الأسهم... ما يؤكد صدارة الصحة العامة فى سلم الأولويات ويلقننا درسا عمليا غير مسبوق بأولويتها على الصناعة والتجارة والسياحة كما على الأسواق المالية وعلى مؤشرات النمو الاقتصادي، إذ هي شرط لذلك جميعا...
ومن هذا المنظور، فإن الارتقاء بقطاع الصحة فى بلدنا ليتمكن من أداء مهمته الجوهرية على أحسن وجه، يشكل ليس فقط أولوية أساسية، بل ضرورة كبرى وشرطا مسبقا لنهضة البلاد.
ولئن كان لنا أن نستبشر خيرا بسياسة رئيس الجمهورية فى هذا المجال، وقيامه بدور الإشراف مع إعطائه الصلاحيات لوزيرٍ أبان عن حسن نية وأعرب عن نزعة إصلاحية مع وعي بتعدد المشكلات وتشعبها وتداخلها، فإنه لنا أيضا أن نتطلع إلى أفعال قوية وإصلاحات جذرية ونتائج مرئية ملموسة فى الميادين الأكثر إلحاحا...
صحيح أن وزارة الصحة كانت أعلنت عن عدة خطوات إيجابية منها، على سبيل المثال، إحياء دورها الإشرافي على الهيئات الصحية، والإعلان عن مجانية الحالات المستعجلة (أو على الأرجح إلغاء الدفع المسبق)، والعمل على مراقبة جودة الأدوية بما فى ذلك مركزة استيراد الأدوية الرئيسية حصريا لدى " كاميك".
غير أن الإجراءات فى مجال ضبط القطاع الخاص، وخاصة توزيع الأدوية وتنظيم الصيدليات، اتسمت بشيء من الشكلية، وإيلاء الأهمية لليسير على حساب الخطير، وكأن "إثارة الضجة الإعلامية" هدف بحد ذاته... هذا فيما لم نسمع عن تحقيقٍ جاد لتحديد المسؤوليات فى كل ما تم اقترافه من تهريب واتجار بالأدوية المزورة بما أضر، على مدى السنين، بصحة الآلاف من المواطنين وأسهم فى مفاقمة الحالات المرضية، وأزهق بدون شك الكثير من الأرواح على مر الأعوام المنصرمة.
أما فيما يخص التطورات المتصلة بفيروس كورونا، فإنه بالتأكيد من المطَمئن، ما رأيناه من تعامل جاد فى بلدنا مع الجائحة القادمة من وراء البحار والتعبئة المعلن عنها استجابة لموجة الصدمة العالمية، والاستنفار على غرار الدول الأخرى، من أجل التصدى للوباء والحيلولة دون تفشيه فى بلدنا. لكن أليس ثمت أزمات أخرى تمس الصحة العامة وبقوة فى بلدنا، وكان ينبغى التعبئة لمواجهتها وتحقيق مستوى من الأمن الصحي للمواطنين إزاءها؟ ولنكتف هنا بذكر بعضها :
أ- وباء الكبد الذى تسببه فيروسات التهاب الكبد التي توطنت في بيئتنا. وما فتئ هذا المرض البطيء العضال يشكل أزمة صامتة فى بلدنا وتحديا حقيقيا للصحة العامة، وعلى الأخص النوع B من التهاب الكبد الفيروسي الذي أظهرت الدراسات تزايد الأشخاص المصابين به، إذ وصل إلى نسبة كبيرة من إجمالي عدد السكان ويفتك سنويا بالمئات. صحيح ان بعض الإجراءات اتخذت منذ سنوات بما في ذلك إدخال لقاح التهاب الكبد B فى "برنامج التحصين الموسع"، لكن الأمر يتطلب تعبئة قوية ومستمرة لتعزيز الوقاية والفحص لكشف المرض وتأمين الدم المتبرع به وتنظيم حملات التوعية الوقائية فى المراكز الصحية وفى المدارس وعبر وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي...
ب- النقص الحاد للماء الشروب فى العديد من المناطق – ما يعرض لجملة من الأمراض من بينها الكوليرا والتهاب الكبد الفيروسي من نوع A والذى يشكل تحديا آخر للصحة العامة، ينبغى مواجهته بوتيرة أعلى مما هو حاصل حتى الآن. وينبغى لقطاع الصحة أن لا يترك الاهتمام بهذا الأمر حصرا لقطاع المياه...
ج- سوء التغذية وضعف المناعة لدى الأطفال، خاصة فى الأسر الفقيرة، بسبب نقص العديد من العناصر المغذية بما فيها البروتينات والفيتامينات ومضادات الأكسدة، ما يجعلهم عرضة للعديد من الأمراض بما فيها الأمراض المُعدية نظرا لهشاشة الجهاز المناعي.
د- مشكلة الأدوية الرديئة والفاسدة وحتى المزورة، والتى سنركز عليها هنا بوصفها أكبر تهديد تواجهه الصحة العامة، ويتميز عن التهديدات الأخرى بأنه الوحيد الذى تتسبب فيه بشكل مباشر قلة جشعة متربحة، قابعة بين ظهراني هذا الشعب...
إن كل مشكلة من هذه المشاكل تمثل، على حدة، أزمةً كبرى تجدر مجابهتُها بنفس القوة، وينبغى لذلك استخلاص الدروس من التعبئة الحالية تحت عنوان مواجهة أزمة "كورونا" وما أملته من تصدّر الأمان الصحي على رأس الأولويات الوطنية وما صاحبه من اهتمام معلن بالرعاية الصحية للمواطنين.
وما يمليه المنطق السليم، هو أن يتم توسيع هذا الاهتمام وهذا الاستنفار لئلا يقتصر على مواجهة جائحة كورونا فقط، بل ليقصد الأمن الصحي الشامل والمستدام خاصة فى ظل تعدد التهديدات للصحة العامة والتى تعانى من الهشاشة أصلا نظرا لضعف الفاعلية لكثير من الخدمات الصحية وشح الوسائل المرصودة وسوء توزيعها...نحتاج تعبئة متوازنة مع خطوات جذرية ضد كبريات المخاطر الصحية، لكن بالطبع وفق نهج علمي ورؤية واضحة واستراتيجية منسقة ترقى إلى جسامة التحديات وتعقيد المشكلات وتعددها وتشابكها.
ولنركز هنا على كارثة الأدوية المزورة، التى تشكل كما قلنا أكبر تهديد للأمن الصحي وتُمثل أحد الهموم الكبرى التى لم تزل تشغل بال الموريتانيين، لدرجة فقدان الثقة فى المتوفر من الدواء وأحيانا في الخدمة الصحية برُمتها.
وإن التراخى أو التغاضى -لئلا نقول التقاعس- عن تحديد المسؤوليات فى جرم مشهود كهذا -والتسليم كأنها "جريمة حصلت بدون مجرمين"- لَيُمثل تمالأ مريبا لإفلات من تربحوا وأثرَوا على حساب صحة وحياة المواطنين. وفى غياب المحاسبة، فلن يتردد أولئك المُتربحون فى إعادة الكرة كلما سنحت سانحة.
وإن تعجب فعجبٌ مدى "الاتفاق" على التعتيم والتغطية، إذ لم يحدث أن رفع وزيرُ صحةٍ شكوى قضائية للتحقيق فى الجرائم المشار إليها كي يتم التعرف على المجرمين وبالتالى محاسبتهم، ولا القضاء قرر بنفسه أن يفتح تحقيقا قضائيا، ولا أجهزة الرقابة (بما فيها مفتشية الصحة والأجهزة الأخرى الأشمل منها صلاحيات ) انبرت فأطلقت تحقيقا وافيا وشاملا للكشف عن منظومة مافيوية محتملة أو عن وجود ارتشاء ممنهج أوتحالفات محتملة لجهات إدارية أو قضائية مع لوبيات من شأنها أن تفسر الحؤول دون مساءلة ومحاسبة الفاعلين... ولا مجلس النواب تحرك نظرا للتقصير فى كل الأجهزة المذكورة، ليشكل "لجنة تحقيق برلمانية" من أجل كشف الحقائق وإحقاق الحقوق.
وليت شعرى ما الذى يمنع المؤسسات المعنية أن تضطلع بدورها فى هذا المجال، أو ما الذى تنتظره؟
فرئيس الجمهورية تعهد باحترام المؤسسات وتمكينها من أداء دورها، وبضمان استقلالية القضاء، وأكد على ذلك من جديد خلال مؤتمره الصحافي الأخير. والشعب يتطلع إلى جهود جادة لإنهاء التغطية على المجرمين وتخليص قطاع الأدوية من براثن الاجرام والفساد والتزوير.
ما الذى يمنع مفتشية الصحة من بذل الجهود الحقيقية المنوطة بها والمتوقعة منها لكشف الحقيقة، وما الذى يمنع قضاة النيابة – وكلاء الجمهورية- من المضي فى فتح تحقيقات قضائية مستقلة؟
وما الذى يمنع مجلس النواب -فى حال إحجام الهيئات الأخرى- أن يطلق تحقيقا برلمانيا شاملا حول الأدوية المزورة وتوريدها فى السنوات الأخيرة وتوزيعها، والاستماع لمختلف المعنيين والتحقيق فى القضايا التى تم إخمادها، أو التغطية عليها فى السابق، مع استدعاء كل من له بها صلة وكل من لديه وثائق او معلومات عنها؟ إن ذلك واجب النواب نحو من انتدبوهم إذ هذه هي القضية الأكثر إضرارا بالمواطنين على مدى سنين متتالية.
وما الذى يمنع الجمعيات والهيئات المدنية من التعبئة ومطالبة البرلمان والسياسيين بالتحرك الفعلي ضد الإفلات من العقاب وضد آثاره الكارثية من استمرارٍ لدس الأدوية المزورة وتسميم المواطنين ؟
إن الأمن الصحي الشامل شأن الجميع، والحاجة ماسة إلى تضافر كافة أشكال الفعل في هذا المجال وخاصة مكافحة الاتجار بالأدوية المُزورة: على مستوى الإرادة السياسية العليا، وعلى مختلف المستويات الأخرى إداريا وتنفيذيا، تشريعيا، قضائيا ومجتمعيا.
وللتذكير، فقد كنت تقدمتُ السنة الماضية بجملة من التوصيات للنهوض بالصحة فى بلادنا (الفصل المتعلق بقطاع الصحة – فى "المقترحات من أجل إقلاع موريتانيا") قبيل انطلاق الحملة الرئاسية آنذاك، وهي فى تقديرى تلخص الأساسيات لتحقيق الرعاية الصحية المنشودة. وتعتمد على ست ركائز، كالتالى :
1- اعتماد خطة ناجعة لتعميم الخدمة الصحية الجيدة، وضمان استفادة جميع المواطنين منها، أينما كانوا.
2- تسريع المسيرة نحو تعميم التأمين الصحي للجميع، وإبداع حلول لتمويله بشكل تضامني ومستدام.
3- تحسين كفاءة سلسلة التزويد بالأدوية ومختلف المنتجات الطبية مع ضمان الجودة والأسعار الملائمة.
4- التطوير المستمر للمستشفيات والمنشئات العمومية الموجودة وتأطير العيادات الخاصة لتحقيق تكامل متوازن مع المؤسسات العمومية.
5- توفير "خدمات طوارئ" حقيقية مزودة بآليات إنقاذ وإخلاء، تتميز بالفعالية وسرعة التدخل لاسيما فى الحالات الحرجة.
6- اعتماد إطار مؤسسي مستدام للحكم الرشيد فى قطاع الصحة يشمل مختلف مكوناته "إداريا" و"عملاتيا".
وعسى أن أعود للتذكير بمحتوى كل من هذه الركائز الست، ولو بشكل مقتضب، فى الجزء الثانى من هذه المقالة إن شاء الله. ولتجنب الإطالة هنا فلنختم هذا الجزء الأول بالإشارة إلى ما قد نبهتُ إليه العام الماضى -فيما يخص مشكلة تزوير الدواء- من ضرورة مقاربةٍ متعددة القطاعات يتم فيها التنسيق بين الجهات المختصة فى قطاعات الصحة والجمارك والشرطة والعدالة، إن نحن أردنا مواجهة هذه الظاهرة بفعالية...
ويتعين لذلك تكثيف المراقبة واعتماد عمليات تفتيش منتظمة، وتطبيق ضوابط صارمة فى متابعة جودة الأدوية المعروضة في السوق وإنزال عقوبات رادعة بالمخالفين، دون محاباة لأحد. ولن ينجح مثل هذا المسعى دون إرادة قوية وجادة لتفكيك أي شبكة أو"مافيا" ترعى أو توفر الحماية لمثل تلك الممارسات، وخاصة من قد يتمالؤ معها -كائنا من كان- داخل أجهزة الدولة... كما سيكون من الضروري أيضًا تحديد المصادر الرئيسية للأدوية المزيفة والتعاون مع البلدان المعنية ومع منظمة الصحة العالمية ومع الشرطة الدولية "انتربول"، بغية تفكيك الشبكات والمسارات الدولية التي تشكل مصدرا لتوريد الأدوية المزيفة إلى منطقتنا.
والله المستعان.