لا يزال تفشي فايروس كورونا في مختلف أنحاء المعمورة مستحوذا على مساحة شاسعة من بلدان العالم ؛ مما يعزز أهمية التضامن ونشر الوعي بين مكونات المجتمع الدولي ؛ ومواصلة التصدي له بكافة الوسائل والطرق الكفيلة لدحر هذا الداء العضال ؛ ما يطرح التساؤل التالي الذي لا يكاد يفارق شفاهنا ونفوسنا المترعة بالهلع والخوف : هل سيتغير شكل العالم والمنظومة الكونوية فى طريقة تعاملها مع شعوب العالم بعد خروجنا من محنة ومأزق فايروس كورونا الوبائي ؟ وهل نحن حقا أمام سقوط وأفول أقنعة كانت تثق بتحكم الإنسان فى الكون ؛ للإنابة إلى خالق هذا الكون والتعلق بتدابيره له ؟ .
أسئلة تمس جرحا نازفا لا يكاد يفارقنا ؛ نظرا لهول الكارثة وسرعة انتشارها ؛ ما يجعل فكرة التضامن للتصدي لهذا الوباء مسألة حتمية لا تقبل التأجيل ؛ محاولين نسيان كل الاعتبارات والخلافات البينية ؛ التى تحدث بين الأفراد والجماعات؛ حتى لا تكون حائلا فى مواجهة داء يخترق الحدود دون استئذان ؛ فمن غير المنطقي والمعقول أن تنعكس تلك الخلافات على المواقف الإنسانية فى الشدائد والمحن ؛ فعلينا أن ننهمك فى التعاون والتنسيق المحكم المتواصل والمستمر للحيلولة دون انتشار الوباء ؛ وهو ما يعكس توجهنا لطي تلك الصفحات المظلمة من الخلافات ؛التى لم تعد علينا بالفائدة ولا على البشرية برمتها ؛ فالزمن أضحى زمن التكتلات والتوحد ؛ ولم يعد زمن التشفي والتقوقع الذاتي ؛ ولهذا يتطلب الأمر العمل جنبا إلى جنب مع الدولة وكافة أجهزتها المختلفة والتعاطي معها بشكل ديمومي لهزيمة عدو لا يفرق بين صديق وعدو للإنسانية ؛ فالمساهمة فى هذه الجهود للقضاء على هذا الداء مسؤولية جمعوية لتحييد الخطر المحدق ببلادنا ؛ وهكذا يبرز دور كل فرد منا للتصدي لهذا الداء ؛ ولذلك فدور الفرد هنا يجب أن يكمن فى مستوى الوعي المجتمعي ؛ هذا الأخير له دور مهم ومؤثر فى انجاح هذه الجهود التى تقوم بها مؤسسات الدولة ؛ فبدون وعي مجتمعي فعال فإن نسبة كبيرة من هذه الجهود ستظل قاصرة .
فوباء كورونا الزاحف جعل من المنظومة الكونوية بعد أن فشلت فى التوحد والتكتل طيلة العقود الماضية قطبا أحاديا ؛ بل وقرية كونية واحدة ؛ حيث تم محو جميع الاعتبارات الجيو _ سياسية والاقتصادية وحتى العسكرية لتبدو في صورة الضعف والوهن ؛ بل أضحت كلها أوهي من بيت العنكبوت أمام قوة خالق الكون ومدبره ومقلبه جل جلاله ؛ ما يطرح بشكل كبير مسألة ( التوحد الكونوي ) والإنابة إليه واخلاص صفة الالوهية له وحده ؛ إذا ما أرادت تلك المعمورة البقاء فى هذه الكرة الأرضية التى زلزلت زلزالها على حين غرة ؛ ولم يعد فيها البقاء إلا للأصلح حسب الزعم الدارويني ؛ وهو ما يحتم العودة بشكل فجائي للاحتكام لنواميس الطبيعة وتسييرها للبشرية؛ بعد أن عجزت وفشلت هذه الأخيرة فى تسييرها للكون ؛ ونشر العدالة بين بني البشر ورد الحقوق لأصحابها ؛ ولذا تثور الطبيعة من جديد عن طريق فايروس كورونا الذي هو آية من آي الله فى الكون ؛ هذا الفايروس الذي لا يعبأ الإنصياع لأوامر رجالات الشرطة ولا يستكين أمام جحافل الجيوش العتاة المدججين بأرقى أنواع الأسلحة والطائرات ؛ ولا يخضع لجواز السفر ليظهر العالم عاجزا عن إيقاف شره المستطير ؛ ويكشف عورات سادة العالم فى صبائها ؛ وما أعلمك أنه قد يكون يأجوج ومأجوج العالم المنظور ( le monde visible ) العالم الذي يبشر بأفول سيستام ونظام ما ؛ وقدوم آخر أكثر إنصافا وعدلا من عوالمنا التى تصخب بالظلم وانتهاك الكرامة الإنسانية ؛ إن هذا الوباء الفايروسي أشبه ما يكون بحرب عالمية ثالثة كان الفيلسوف الألماني ( فريدريك نيتشه) قد تنبأ قيامها أو أنه باعثها مع علمه أنه سيكون هو أول من يتضرر بلظاها ؛ إنه درس للمنظومة الكونوية للنظر فى إعادة ترتيب الأولويات بشكل متجدد وليس جديدا فقط ؛ نظرا لما تمليه الظرفية الراهنة ونظرا لما يفرضه النظام العولمي الكوسمولوجي الشمولي التوتاليتاري؛ الذي أصبحت التحديات فيه مشتركة بحيث لا يمكن التعاطي معها بشكل فرداني ( individualisme ) ؛ كما لا يمكن الرجوع القهقري إلى الانظمة الأحادية التى أضحت جزء من الماضي ؛ فليس ثمة من حلول ناجعة سوى إعادة بناء مفاهيم جديدة للعيش المشترك والمسؤوليات المشتركة ؛ أي من منظور مفهوم إعادة الإعتبار لمركزية الإنسان ؛ وترسيخ قيم العدالة والسلم العالمي ؛ فهذا الداء أماط اللثام عن العالم فسقطت أقنعة كانت بالأمس القريب تعتبر نفسها قطبا مركزيا فى إشاعة العدالة واحترام حقوق الإنسان ؛ بل والتحكم فى معرفة أسرار العالم ؛ وقوة عسكرية لا يستهان بها ؛ فإذا هي ولأول مرة تساقط كأوراق التوت أمام تداعيات فيروس جبان لا يختفى إلا ليظهر بأشد واقسى ؛ وهو ما يعضد قولنا بأننا بحاجة إلى التوحد والتشكل من جديد ؛ أو نترك الباب على مصراعيه لتحكم النواميس الفيزيقية ( physiquement ) كي تسير العالم بعد ارتهاننا للضعف فى ايجاد لقاح مضاد للفيروس ؛ وهو ما يجعلنا نقول مع عدم الجزم إن ظهور هذا الداء يشكل تحديا حقيقيا للعالم وإظهاره على حقيقته أمام تحديات الدهر ؛ التى لا ترحم من شكى ولا ترق لمن بكى .وفي ظل هذا وذاك كم نحن محتاجون إلى العناية واللطف الإلهي.
حفظ آلله البلاد والعباد من سيء الأسقام .