لقد فرضت الظرفية الصحية الاستثنائية المترتبة عن فيروس كورونا (كوفيد 19) سريع العدوى والانتشار، على غالبية دول العالم اتخاذ رزمة من الإجراءات لمواجهة هذا الوباء. فبعض الدول حدا به الأمر إلى إعلان حالة الطوارئ والبعض الآخر اكتفى بحظر التجول جزئيا ومنع تنقل الأشخاص بين المدن. ومن بين الدول التي اكتفت حتى الآن بهذا الإجراء الأخير موريتانيا. ولاشك أن سريان العمل بهذا الإجراء يترتب عنه تقييد حرية المواطنين المضمونة دستوريا بنص المادة العاشرة من الدستور الموريتاني لسنة 1991 المعدل. فحرية تنقل المواطنين في مختلف أجزاء التراب الوطني حق أصلي لايمكن تقييده إلا بالقانون حصرا، وهذا الأخير لايصدر إلا عن البرلمان.
غير أن الحكومة الموريتانية اكتفت في البداية باتخاذ إجراء حظر التجوال والتنقل ببيان أصدرته وزارة الداخلية بهذا الشأن، وهو ما يعتبر تعديا سافرا على مجال القانون الذي تعتبر المسائل الداخلة في نطاقه من اختصاص البرلمان حصرا بنص المادتين 57 و 59 من دستور 1991 النافذ حاليا.
وحسنا تنبهت الحكومة في الأخير إلى ضرورة تدارك هذا الخطأ والرجوع إلى البرلمان لتشريع اتخاذ ما تتطلبه الظرفية الحالية من تدابير وإجراءات تدخل في مجال اختصاص القانون. ولكي يمكن للحكومة أن تحل محل البرلمان للتشريع في مجاله يتعين أن يكون ذلك استنادا على إحدى هاتين الحالتين:
- إما أن يمنحها البرلمان نفسه إذناً بذلك بقانون. واستنادا على هذا الإذن يصبح بإمكان الحكومة تنظيم مسائل داخلة في مجال القانون بأوامر قانونية ( أو ما يسمى بالمراسيم التفويضية)؛
-أو تدفعها الضرورة لاستخدام تقنية إصدار ما يسمى "مراسيم الضرورة" نظرا لسريان العطلة البرلمانية، أي خلال الفترة الفاصلة بين الدورات البرلمانية. وإن كان المشرع الوطني لم يبوب على هذه التقنية بخلاف العديد من الدساتير المقارنة.
فيما يخص الحالة الأولى ( وهي التي تهمنا هنا) اي حلول الحكومة محل البرلمان بموجب التفويض (الإذن البرلماني):
صادق مجلس الوزراء في اجتماعه الاستثنائي الذي التأم يوم الأربعاء الموافق الأول من مارس 2020 على مشروع قانون تأهيلي يخول الحكومة، استنادا على المادة 60 من الدستور، إصدار أوامر قانونية لاتخاذ مختلف الإجراءات الضرورية لمكافحة جائحة كورونا( كوفيد 19) وذلك في المسائل التي تدخل عادة ضمن مجال القانون.
سنستعرض بدءا نص المادة 60 من الدستور المشار إليها ثم نقوم بتفكيك مضامينها ومقتضياتها.
تنص المادة 60 من الدستور على ما يلي :
"للحكومة، بعد موافقة رئيس الجمهورية ومن أجل تنفيذ برنامجها، أن تستأذن البرلمان في إصدار أمر قانوني خلال اجل مسمى يقضي باتخاذ إجراءات من العادة أن تكون في مجال القانون. تتخذ هذه الأوامر القانونية في مجلس الوزراء وتتطلب موافقة رئيس الجمهورية الذي يوقعها.
تدخل الأوامر القانونية حيز التنفيذ فور نشرها، غير أنها تصبح لاغية إذا لم يستلم البرلمان مشروع قانون التصديق، قبل التاريخ الذي يحدده قانون التأهيل.
وبانقضاء الأجل المذكور في الفترة الأولى من هذه المادة، تصبح هذه الأوامر القانونية غير قابلة للتعديل إلا بموجب القانون في المواضيع الخاصة بالمجال التشريعي.
يصبح قانون التأهيل لاغيا إذا حلت الجمعية الوطنية".
بتفكيك مقتضيات فقرات هذه المادة ( المادة 60 من الدستور) نلاحظ انها قيدت إصدار الأوامر القانونية (مراسيم الإذن) من قبل الحكومة بتوافر الشروط الآتية:
1-ان يكون غرض الحكومة من إصدار هذه الأوامر القانونية تنفيذ برنامجها.
2-تحديد مدة زمنية لسريان مقتضيات احكام هذه الأوامر.
وهدف المشروع من التأكيد على هذا المقتضى هو الحيلولة دون استئثار الحكومة بالتشريع في مجالات هي في الأصل من اختصاص البرلمان، وإن كان يؤخذ على المشرع أنه أطلق العنان الحكومة في تحديد نطاق هذه المدة الزمنية، بمعنى ان المدة المحددة قد تطول وقد تقصر حسب رغبة الحكومة؛
3-وجوب إحالة هذه الأوامر القانونية إلى البرلمان للمصادقة عليها قبل انتهاء سريان الأجل الذي حدده قانون الإذن.
وفي حال ما إذا لم تقم الحكومة بهذه الإحالة او تم حل الجمعية الوطنية فإن تلك الأوامر القانونية تصبح لاغية.
4-مصادقة مجلس الوزراء على هذه الأوامر وتوقيعها من قبل رئيس الجمهورية قبل إحالتها إلى مرحلة النشر.
إذا لم تتوافر هذه الشروط، وذلك بأن لم تلتزم الحكومة بما تحدده مقتضيات قانون التفويض من ضوابط وإجراءات، فإن تلك الأوامر القانونية تصبح مجرد قرارات إدارية من حيث الشكل، ويمكن الطعن فيها أمام القضاء الإداري المختص.