في تقرير لمراسل قناة الجزيرة في الأردن، عن تطور انتشار وباء كورونا، وصف ظهور سبع إصابات جديدة في أسرة واحدة، في مدينة الرمثه التي لم تكن موبوءة، بالقصة المضحكة المبكية. ذلك أن طبيبا أردنيا سافر إلى إيطاليا أثناء ذروة تفشي المرض فيها وعاد عبر اليونان إلى أهله في الرمثه لينقل إليهم العدوى، رغم زعمه أنه وضع نفسه في حجر صحي. وخلص المراسل في نهاية تقريره إلى أن المعركة في النهاية هي "معركة وعي"، ومنه اقتبست عنوان مقالتي!
لقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الأوربيون في حالة أهبة تامة للمعركة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فما ضعُفوا وما استكانوا، وظل السوفييت ومن بعدهم ورثتُهم الروس يعدّون العدّة للمواجهة في يوم موعود، وأمست الصين تنظم جيوشها وتبني قلاعها وتتحصن وراء سُورها العظيم، لكن في صمت مريب!
تنافسوا جميعا في إنتاج الأسلحة النارية والنووية والجرثومية والفيروسية، وتفننوا في صناعة حوامِلِها، من طائرات ودبابات ومدرعات وصواريخ قصيرة المدى وعابرة للقارات، إلى حاملات طائرات عائمة فوق المياه وغوّاصات تسكن تحت لُجج البحار والمحيطات.
زاد إنتاج الأسلحة عن المطلوب لمعركة اليوم الموعود، وضاقت المخازن في الغرب والشرق بما رحبت، فأضحى الفائض منها معروضا للبيع، لتتحول مع مرور الزمن إلى إحدى أهم السلع التجارية الرائجة في أسواق العالم بسبب كثرة الحروب والنزاعات التي لا ينطفئ أوارُها في مكان إلا ليشتعل في مكان آخر.
ولكي تضمن تشغيل معاملها وبيع إنتاجها من الأسلحة الرابحة، عادت الدول الصناعية إلى الاحتيال على موارد شعوب العالم الثالث، والاستحواذ على مقدراتها، خصوصا في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وفي منطقة الشرق الأوسط، عن طريق نزاعات عرقية وحروب بينية، تُستنفد فيها ثروات الدول المتخلفة لتغطية نفقات الحروب التي تَنشأ لسبب أو تُخلق لها الأسباب باستخدام أدوات وعملاء تابعين في مناطق الصراعات والحروب المختلفة. وما طول أمد النزاعات العبثية الدائرة في ليبيا وسوريا واليمن إلا بسبب تواطؤ قوى خارجية لا تريد للحروب أن تتوقف ولا للمعاناة أن تنتهي.
هكذا، فجّروا نزاعات وغذٌّوا حروبا تستدعى شراء أسلحة، يتم اقتناؤها بموارد هذه الشعوب التي تشكل وقود نيرانها وحطب لهيبها، دون أن تدري أسبابها الخفية ومآلاتها المتوقعة.
فالمعركة التي ظل قادة الغرب والشرق يعدّون لها العُدّة، كل على طريقته، لم تكن في الحقيقة إلا معركة بين الإنسان والإنسان، تتم فيها تصفية مجموعات بشرية من الشيوخ والولدان والمستضعفين، في مناطق بعيدة كالعراق واليمن وليبيا وسوريا. ولولا خشيتهم من الكلفة البشرية الباهظة في صفوف جيوشهم، لأشعلوها حروبا طاحنة في إيران وفنزويلا وكوبا وكوريا الشمالية.
كان التنسيق في هذا النوع من المعارك مطلوبا، وتقاسم الأدوار ومناطق النفوذ مستساغا، والتنافس على الأسواق والصفقات مقبولا. أما في معركة كورونا، فقد تصرفت كل دولة بمفردها، وطغت روح الأنانية بدل التعاون والتكامل، حتى بتنا نسمع مسؤولين أوروبيين، خاصة من ألمانيا وفرنسا وإسبانيا يوجهون التهم بشكل صريح للولايات المتحدة الأمريكية بقرصنة معدات طبية، في طريقها من الصين إلى هذه البلدان!
لقد تعامل قادة الدول الكبرى مع كورونا برعونة فائقة وحمق مبالغ فيه، فعرّى نظامهم العالمي وكشف سَوءاتهم، حين أظهر حقيقة تنافسهم المحموم في صناعة وسائل القتل والدمار، دون اكتراث بصناعة أدوات الحماية من الأمراض وإنقاذ الأرواح البشرية؛ فكان المعروض من الأسلحة والذخيرة بأنواعها المختلفة أكثر من المتوفر من أجهزة التنفس والكشف، وحتى الكمامات والقفازات!
ذلك أنهم لم يعوا ولم يتوقعوا حدوث معركة بهذا الحجم، يكون العدو فيها فيروسا، شرسا، عدوانيا، ووقحا، لحد الإساءة المباشرة لرؤساء حكومات دول عظمى وقادة جيوش كبرى، لا تستطيع نيرانهم الفتّاكة قتله عن بعد، ولا أقمارهم الصناعية رصده وهو يتسلل إلى حاملات طائراتهم العملاقة، وأماكنهم الرمزية المحصنة.
والحقيقة أن معركة كورنا هي معركة وعي بامتياز، ستكون الغلبة فيها لمن عرف مصدر الشر واتقاه، وحدد مواقع الخطر فاجتنبه، ورسم حدود إمكانياته فتصرف وفقا لها. هذا ما يخلص إليه المتتبع لتطور خريطة انتشار الوباء. إذ لم يمنع تطور الأنظمة الصحية في الولايات المتحدة ولا في المملكة المتحدة، أو في إسبانيا أو إيطاليا أو ألمانيا أو فرنسا من تفشي الوباء القاتل في هذه البلدان، التي أعلن أحد زعمائها، وهو رئيس وزراء إيطاليا تسليمه لأمر السماء بعد فشل حلول الأرض وخيبة الأمل في الأصدقاء والحلفاء!
في معركة كورونا، تفوقت قوة العقل على عقلية القوة، وفيها دخل حكام العالم وقادته في امتحان لقياس الوعي والمسؤولية. سقط بعضهم أثناء أول أيام الامتحان ونجح البعض الآخر بدرجات متفاوتة، وتقديرات تتناسب عكسا مع وسائل بلدانهم البشرية والمالية واللوجستية.
في امتحان كورونا، تجرى المسابقة على مرحلتين؛ في الأولى تدور الأسئلة حول وعي الراعي بمسؤوليته عن الرعية، وإدراك القائد لمستوى عتاده وحجم عدته، واستحضاره لقدرات خصمه على المناورة والمراوغة. وقد حصلت بلادنا في هذه المرحلة ـ بحمد الله ـ على درجة ممتازة حسب المعايير والضوارب. لكن المرحلة الثانية تبدو أصعب لأن أسئلتها موجهة لقياس مستوى وعي الرعية. فهل ينجح شعبنا في اجتياز اختبارات المرحلة الثانية؟
هل سيعي شعبنا ضرورة التقيد بقواعد السلامة الصحية من تباعد فيما بيننا واجتناب للاختلاط وبقاء في المنازل، وحرص على غسل اليدين، وإبعاد لنعالنا عن الفراش، ولملابسنا عن بعضها البعض، وامتناعنا عن تداول الأدوات الشخصية والاشتراك في كؤوس الشاي؟
هل سيعي مواطنونا في المناطق الحدودية ضرورة مساعدة السلطة العمومية على إيقاف التسلل من الحدود قبل الإعلان عن زوال الخطر؟
هل يعي شعبنا وأجهزة أمننا وأطباءنا أن التحلي بالصبر وطول النفس من أهم أسلحة هذه المعركة التي يتوقع أن تستمر إجراءاتها وضوابطها حتى يزول الخطر عن بلادنا والبلاد المجاورة؟
هل سيعي شعبنا أننا في وضعية استثنائية تتطلب إلغاء الزيارات لغير ضرورة قصوى، وإلغاء الموائد والولائم المنظمة عادة في المناسبات الاجتماعية؟
هل ستعي جماعة المسجد ضرورة تطهيره بصفة منتظمة بعد كل صلاة، وضمان تباعد المصلين عن بعضهم البعض بمسافات محددة، حفاظا على صحة المصلين ومن له صلة بهم؟
هل سنعي، على المستوى الأسري، أن أولوياتنا يجب أن يعاد ترتيبها، لتراعي خصوصية الظرف، وطبيعة المرحلة، بما يقتضي الحد من الكماليات والتركيز على الضروريات، دون إخلال بمبدأ السعة والقدرة: "على الموسع قدره وعلى المقتر قدره"؟
هل سيتضاعف في هذه المرحلة عطف أقويائنا على ضعفائنا، وأغنيائنا على فقرائنا، وموسِرينا على معدَمينا، لأن كلا منا بحاجة إلى الآخر، ولأن بقاءنا أحياء أولى من تفاضلنا في الرزق!
مع كامل التوفيق لشعبنا في النجاح.