بعد أن تضع جائحة وباء كورونا أوزارها المدمرة ؛ وحين تلتقط البشرية أنفاسها المكتظة رعبا من عدو لا يبقي ولا يذر ؛ ظل شبحه جاثما على صدورها ردحا من الوقت ؛ ها هي تستيقظ من عالمها المذهل بعد الأزمة وتكشف حجم الدمار الذي خلفه هذا العدو اللدود اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وحتى علاقاتيا بين الدول .
ولا ريب فى أن هذا الفايروس التاجي سيترك بصماته ومخلفاته على العالم بأسره؛ هذا العالم الذي كان إلى وقت قريب يسير بخطى حثيثة نحو النماء الاقتصادي والاجتماعي ؛ أي ما قبل الجائحة التى ضربته في الصميم وهزت أركان دعائمه محولة اقتصادات العالم أثرا بعد عين ؛ جائحة هزت العالم مخلفة أزمة إقتصادية ومالية لم يسبق لها مثيل فيما مضى من الزمن ؛ حيث انكسف الغطاء والستار وذاب الجليد الذي كان يغطي ويحجب عن الأعين حقيقة وكنه هشاشة الاقتصاد العالمي؛ بكل ما يحمله من مسميات براقة ؛ التى يخالها البعض حقائق ماثلة ؛ ليكشف فى النهاية أنها ليست سوى سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء .
فالاقتصاد العالمي اليوم أضحى مفلسا ؛ ظرا لحجم الدمار الذي سيلحقه هذا الوباء فى العالم ؛ حيث لم يسبق لأي حرب _ مهما كانت ضراوتها _ أن خلفته اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ؛ ولا يمكن لأي كان أن يتصور أو يعتقد كل التداعيات والانعكاسات التى ستنجر عن هذا الإفلاس ؛ مما يؤشر أيضا على أن العالم سيخرج من هذه المحنة أكثر انضباطا وحكامة وإنصافا من ذي قبل ؛ فهذه الأزمة ستعصف بدول وتقوى أخرى ؛ كما كما قلنا في مقال سابق وسيؤدي إلى تغيير نمط ميزان القوى وتحول السلطة والنفوذ ؛ لينكشف بصفة جلية من سيحكم دفة العالم ما بعد الكورونا ؛ وذلك عن طريق خلق أقطاب إقتصادية جديدة قد تكون من تلك الدول التى تمتلك مخزونا وافرا من الموارد الأساسية؛ ولهذا سيكون لزاما على بعض الدول أن تكون مضطرة لتقوبة اقتصادها بعد الأزمة ؛ محاولة فى الوقت ذاته حماية ذلك الاقتصاد بصفة أكثر عقلنة فى التسيير ؛ لأن المبادلات العالمية ربما ستشهد انكماشا هي الأخرى ولو على المدى المتوسط .
فقد كشف هذا الوباء عن ضعف دول كان الجميع يعتقد أنها الأنجح ؛ بل يجب الاقتداء بها فى سياسات النمو الاقتصادي ؛ والأدهى من ذلك والأمر أن هذا الوباء كشف عن هشاشة الأسواق وضآلة الحكامة وضعف كفاءة المسؤولين بتلك الدول ؛ ما يطرح المساءلة لهذه الأنظمة الديمقراطية بهذه البلدان عن مدى نجاعة وجدوائية خططها في تدبير ومواجهة الأزمات من أجل حماية ممواطنيهم فى مثل هذا النوع من النكبات ؛ وهكذا فهذا الوباء وضع حدا للطبقية والارستقراطية معيدا البشرية إلى جادة الصواب وإلى رشدهم ؛ بحيث أصبح الفقير والغني في ميزان واحد يواجهان سويا نفس المصير المجهول يواجهان الهلع والفزع المحدق بهما ؛ فلا المال والسلطة والجاه قادرة على حماية صاحبها من هذا الوباء حتى بدأ الناس يدركون بشكل لا مواربة فيه معنى وقيمة الحياة والقيم الخلقية واحترام الكرامة الإنسانية التى ديست بمناجل السلطويين ورجالات المال والأعمال ؛ وهكذا تعلمنا الكورونا أن العالم أضحى قرية صغيرة بأفراحها وأتراحها وحتى بأوبئتها الملوثة ؛ كما علمتنا أننا نحتاج فى معاملاتنا التجارية إلى استحضار وتمثل أهمية القيم والمبادئ الإنسانية العليا ؛ والتى يجب احترامها مهما كان لون أو شكل أو عرق تلك الإنسانية ؛ علاوة على ذلك يقول لنا هذا الوباء بلغة صامتة لا يفهمها إلا من اتعظ وادكر وفكر أن الصحة والرغبة في الحياة أمران متلازمان لا يعادلهما مال ولا جاه ؛ وأخيرا علمنا وباء كورونا أن التضامن والتآزر من أسمى القيم الإنسانية التى يوصي بها ديننا الحنيف ؛ كبسط يد العون للمعوزين والفقراء واليتامى مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: ( أنا وكافل اليتيم فى الجنة هكذا ....ويشير بسبابته الوسطى ..) إنه تذكير إلهي " وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين " ؛ فهو درس يدعو العالم كي يستعيد إنسانيته المفقودة؛ ويشعر من جانب آخر الحكومات أن الإستثمار فى الإنسان هو الحل ؛ ذلك أن الإستثمار الحقيقي يكمن فى التعلم الذي لا يفرق بين غني وفقير تعلم مبني على القيم والاخلاق قبل أن يكون حشوا وتلقينا للطالب وعصفا فكريا ووأدا لمهاراته .
اللهم احفظ بلدنا من كل مكروه وسيء الأسقام
كيفه بتاريخ : 06 / 04 / 2020