يدور الحديث هذه الأيام عن وجود مساع حثيثة لتوجيه لجنة التحقيق البرلمانية استدعاء لرئيس الجمهورية السابق محمد ولد عبد العزيز للمثول أمامها ليقدم ما لديه من معلومات حول وقائع بعض القضايا موضوع التحقيق البرلماني.
هذه الخطوة، إن صحت، فإنها تطرح العديد من الإشكالات والتساؤلات تتعلق أولا بمدى أهلية اللجنة دستوريا في تقديم استدعاء لرئيس الجمهورية السابق؟ وهل انتفاء المسؤولية السياسية لرئيس الجمهورية عن أفعاله مقيدة بفترة تقلده منصب رئاسة الدولة أم أنها تمتد لتشمل عدم إمكانية التحقيق معه بعد انتهاء ولايته الرئاسية في أي وقائع ذات صلة بأفعال مارسها ،أو أمر بالقيام بها، أثناء شغله منصب رئيس الجمهورية؟
بدءاً، إذا كانت القاعدة العامة السائدة في الدول ذات الأنظمة الديمقراطية تقوم على التلازم بين السلطة والمسؤولية، "فحيث ما وجدت السلطة وجدت المسؤولية". وبانتفاء هذه التلازمية الترابطية ( إن صح التعبير) تصبح السلطة تسير في اتجاه الاستبداد المحقق، فإن الدساتير الموريتانية بمراجعاتها المختلفة بدءا بدستور 1961 وصولا إلى دستور 1991 المراجع أخيرا في سنة 2017، تواترت على تقرير مبدأ عدم مسؤولية رئيس الدولة، بالرغم من السلطات الواسعة التي خولته ممارستها في مختلف المجالات والمستويات. وفي هذا الإطار نصت المادة 93 من دستور 1991 على مقتضى عدم مسؤولية رئيس الدولة: "لا يكون رئيس الجمهورية مسؤولا عن أفعاله أثناء ممارسته لمهامه إلا في حالة الخيانة العظمى".
يتضح من خلال مقتضيات هذا النص أن المشرع الدستوري الموريتاني صار في اتجاه تقرير عدم مسؤولية رئيس الجمهورية عن أفعاله السياسية والمدنية وحتى الجنائية باستثناء حالة الخيانة العظمى. غير أن المشرع أغفل تحديد المقصود بجرائم الخيانة العظمى. ودون الخوض في النقاش والجدل الذي أثير في الفقه الفرنسي حول دلالات مفهوم الخيانة العظمى، في ظل غياب أي نص دستوري يحد طبيعتها ونطاقها فإن الدستور الموريتاني اكتفى بتحديد الجهة التي يمكنها توجيه هذا الاتهام لرئيس الجمهورية والمحكمة التي تحاكمه في هذه الحالة، والإجراءات الضابطة لذلك. بحيث نصت الفقرة الثانية من المادة 93 من الدستور على أنه :"لا يتهم رئيس الجمهورية إلا من طرف الجمعية الوطنية التي تبت بتصويت عن طريق الاقتراع العلني، وبالأغلبية المطلقة لأعضائها. وتحاكمه في هذه الحالة محكمة العدل السامية".
إذا كانت هذه المقتضيات الدستورية تؤكد عدم المسؤولية السياسية لرئيس الجمهورية عن الأفعال التي يقوم بها أثناء تأديته لمهامه، فهل سريان نفاذ مقتضى انتفاء هذه المسؤولية ينتهي فور مغادرة الرئيس لمنصب الرئاسة؟
لاتسعف المقتضيات الدستورية بإجابة صريحة تفك أغلال هذا الإشكال، ولكن السائد تأويلا وممارسة أن الأفعال التي يقوم بها رئيس الجمهورية أثناء تأدية مهامه تظل محصنة من المساءلة، حتى وهو يحمل مجرد صفة "رئيس الجمهورية السابق". لذلك يبدو أنه في حال قيام لجنة التحقيق برلمانية باستدعاء الرئيس السابق للمثول أمامها فإن هذا الإجراء لا يستند على أساس دستوري أو قانوني ولا حتى أعراف ممارساتية سابقة في التجربة الموريتانية، بل وحتى في بعض التجارب المقارنة، وبالخصوص التجربة الفرنسية التي يستأنس بها غالبا في حال غياب نص صريح في مسألة ما أو اكتنف المقتضيات الناظمة لها غموض أو التباس؛ نظرا لتأثر الدستور الموريتاني بنظيره الفرنسي الصادر 1958.
فبا لاستئناس بالتجربة الفرنسية نجد أنه في سنة 1984 صادقت الجمعية الوطنية الفرنسية على تشكيل لجنة تحقيق في القضية المعروفة ب Les avions renifleurs والمتعلقة بتمويل اختراع علمي في المجال البترولي سنة 1976 في عهد الرئيس الفرنسي السابق "جيسكار ديستان".
وهكذا فقد شكلت هذه اللجنة في عهد الرئيس الفرنسي آنذاك "افرانسوا ميتران"، وكان الهدف منها التحقيق في احتمال وقوع فضيحة في تمويل هذا الاختراع الذي يمكن أن يؤثر في البحث البترولي، والذي عقدت صفقته في عهد "جيسكار".
وأثناء البحث والتحقيق ارسلت لجنة التحقيق البرلمانية رسالة استدعاء لـ"جيسكار" من أجل الاستماع إليه حول وقائع القضية محل التحقيق، وليقدم تفسيرا لبعض الوقائع التي قد يكون على علم بها أثناء ممارسته لمهامه الرئاسية. لما وصل الاستدعاء إلى جيسكار كتب رسالة إلى خلفه "ميتران" لإطلاعه على الاستدعاء الذي توصل به من قبل لجنة التحقيق ويطلب منه رأيه حول هذه المسألة انطلاقا من موقعه التحكيمي وكحامي للدستور طبقا للمادة الخامسة من دستور 1958، وذلك قبل أن يرد على الاستدعاءالبرلماني.
وقد تناولت رسالة "جيسكار" الموجهة إلى "ميتران" إجمالا نقطتين أساسيتين:
- إن استدعاء رئيس سابق من قبل لجنة برلمانية بخصوص وقائع حدثت أثناء مأموريته الرئاسية يعد سابقة لم تشهدها فرنسا منذ إقرار دستور الجمهورية الخامسة؛
-ان الدستور حدد بتركيز الضوابط التي تحكم العلاقة بين رئيس الجمهورية والبرلمان في المواد من 10 إلى 18 والقواعد الضابطة لممارسة كل منهما مسؤولياته الخاصة به. فهل يمكن اعتبار سريان إعمال هذه القواعد والضوابط المتعلقة بهذه المسؤوليات ينتهي بمجرد انتهاء الولاية الرئاسية؟
رد الرئيس "ميتران" على رسالة سلفه مؤكدا على وجاهة التأسيس الذي قامت عليه والحيثيات التي تضمنتها؛ ليخلص إلى أن " الحصانة التي يتمتع بها رئيس الجمهورية لا تقتصر على مدة ممارسته لوظائفه وإنما تشمل أيضا الوقائع التي تحدث أثناء ذلك".
ولم يكتف "ميتران" بذلك، بل كتب في نفس اليوم رسالة إلى رئيس الجمعية الوطنية "ميرماز" يشعره فيها بالرسالة الاستشارية التي وجهها إليه سلفه "جيسكار". وتضمنت هذه الرسالة التأكيد على انه ليس هناك نص دستوري ولاممارسة في السابق في فرنسا تمنح أية لجنة برلمانية حق الاستماع إلى رئيس الجمهورية السابق "جيسكار". ولذلك فينبغي أن يدعو رئيس الجمعية الوطنية اللجنة البرلمانية إلى التقيد بالمقتضيات الدستورية والالتزام بما تقرره من احكام.
فهل في حالة استدعاء الرئيس السابق سنكون أمام "تدوير" لتجربة "جيسكار" و"ميتران" من جديد بخصوص الحالة الموريتانية؟