في شهر ديسمبر من سنة 2013 وجه الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز حكومته في أحد اجتماعاتها إلى العناية بالنخيل من أجل دمجه في دورة الإقتصاد الوطني، وفي اجتماع لاحق للحكومة صادق مجلس الوزراء على مشروع بهذا الخصوص، علق عليه وزير الشؤون الإقتصادية يومها سيدي ولد التاه مبديا أسفه على الإهمال الذي يعاني منه قطاع التمور، ولجوئنا لاستيراد هذه المادة في الوقت الذي يمكننا الاكتفاء منها محليا.
ويومها كتبت مقالا تحت عنوان " العناية بالنخيل.. اللفتة التي شدتني أكثر " عبرت فيه عن خشيتي من أن يلتقط القيمون على القطاع الريفي ذلك التوجيه وينفذونه على طريقتهم، كأن تنطلق في الأسبوع الموالي بعثات باتجاه مناطق الواحات، من أجل إجراء مسح أو إحصاء جديد لأعداد النخيل وأنواعه والمعوقات التي يعاني منها، وعقد اجتماعات متلفزة مع رابطات الواحات وتزويدهم ببعض مبيدات الآفات، لتعود هذه البعثات وتقول هكذا نكون قد نفذنا تعليمات رئيس الجمهورية للعناية بالنخيل.. وبينت أن العناية بالنخيل يجب أن تتمثل في عصرنة زراعته بعد أن ظلت تقليدية وبدائية، وذلك من خلال اتباع التقنيات الحديثة في زراعته بدء بطرق الزراعة، وطرق الري الحديثة، والتسميد ومكافحة الآفات، وإدخال طريقة إكثار النخيل بتقنية زراعة الأنسجة ( Tissue Culture ) بمزاياها الكبيرة، والتركيز على الأصناف الجيدة، ثم التصنيع القائم على الطرق العلمية..
ولله الحمد لم يحصل ما كنت أخشاه، وتمثل ذلك المشروع في ما تم اتخاذه من إجراءات وسياسات في مجال النخيل فيما بعد، كإدخال تقنية الري الحديث باستخدام الطاقة الشمسية التي تتوزع منها اليوم عشرات أنظمة الري الجماعي في مناطق الواحات الرئيسية، وكإنشاء الواحات النموذجية بطرق زراعية وري حديثة التي توجد منها اليوم واحة بمساحة 100 هكتار و 16 ألف نخلة في منطقة " تيارات أصدر " بولاية آدرار، وأزيد من عشر واحات أخرى بمساحة 10 هكتارات لكل واحة موزعة على مناطق الواحات في تكّانت والحوضين على أن تعم هذه التجربة في المستقبل.
نتج عن ذلك المشروع أيضا إنشاء مركز لإكثار النخيل بتقنية زراعة الأنسجة في مدينة أطار هو اليوم في مراحل متقدمة، ويستعد الآن لإنشاء محطة وبيوت زجاجية للبدء الفعلي في إنتاج فسائل النخيل، كما نتج عنه إنشاء مصنع للتمور في مدينة أطار أيضا وبمعايير تعتمد التقنيات الحديثة في كافة مراحل التصنيع من جمع وفرز وتعقيم وتبخير وتعليب وحفظ وتخزين ( بجانبي الآن علبة من هذا المنتوج الشهي أتناول منها وأنا أكتب هذا الكلام ) وأحيي القائمين على هذا المصنع وأحثهم على الصبر عليه وتطويره، وأطالب الدولة بالعناية به، كما أحث منتجي التمور على تشجيعه والتضحية من أجل استمراريته وبلوغه طاقته الإنتاجية المرسومة له، واعتباره مصنعهم الخادم لإنتاجهم لا منافسا لهم كما لا زال يتصوره بعضهم..
اليوم نسمع أن وزارة التنمية الريفية تعد خطة لحملة صيفية لزراعة 2700 هكتار من الخضروات، وتنتابنا نفس الخشية من المضي في هذا القرار بعقلية تنفيذ الأفكار التي لا إعداد ولا أرضيات لتنفيذها، ونتمنى أن تأخذ الوزارة وجهة نظرنا إزاءه، وجهة النظر هذه التي لا غاية لنا من ورائها سوى النصح، ولا شيء غير النصح لعامة صناع القرار وخاصتهم، في الإنطلاق في هذه الخطة من المعطيات العلمية والمناخية البحتة دون الإنجرار خلف نداءات من غير أهل الإختصاص، أو فزع من نقص في مادة الخضروات نتيجة للظروف العالمية اليوم..
ولكي نوضح لمن لا يعلمون، ومن نسمعهم دوما يستغربون من ندرة الخضروات في سوقنا خلال فصلي الصيف والخريف رغم توفر الماء والأراضي كما يقولون، فإنه خلال فصل الصيف وابتداء من شهر ابريل وإلى غاية شهر يونيو، تهب على معظم مناطق بلدنا ما يعرف برياح السموم الحارة والجافة ) L’harmattan )، وخلال هذا الموسم تصبح عمليات التنفس والنتح ( فقد الماء من الأوراق ) لنباتات الخضروات أكبر وأسرع من قدرتها على امتصاص الماء من التربة، وبذلك تتوقف كافة العمليات الفسيولوجية في النباتات فتذبل وتموت، وحتى لو استطاعت مقاومة هذه الظروف فإنها لن تتمكن من الإزهار، وإذا تمكنت من الإزهار الجزئي فإن أزهارها لن تستطيع التخصيب ولا عقد الثمار بفعل الحرارة، وبالتالي لن يكون هناك إنتاج.
ليس ذلك فقط بل إنه في ظروف الحرارة المرتفعة تنشط الفيروسات التي تهاجم النباتات، والمعروف أن الفيروسات لا مبيدات ولا علاج لها، مثلها مثل فيروس " الكورونا " الذي يؤرق العالم اليوم بلا لقاح ولا علاج، والمتفق عليه اليوم في كافة أصقاع المعمورة أن لقاحه الوحيد هو الوقاية منه من خلال العزل والتباعد الإجتماعي، وبنفس المعنى فإن العلاج الوحيد لهدر مورادنا ووقتنا وجهدنا في حملة صيفية لزراعة الخضروات ستُباغت منظومتنا الزراعية، كما باغت الفيروس كافة منظوماتنا ومنظومات غيرنا، هو العدول عن هذه الفكرة من الأساس..
هذا في فصل الصيف، أما خلال فصل الخريف فإنه لا يتغير سوى أن الحرارة المرتفعة تنضاف إليها نسبة الرطوبة الجوية العالية، مما يشكل بيئة خصبة لتكاثر الأمراض الفطرية والبكتيرية والآفات الحشرية، مما يؤثر بشكل كبير على زراعة الخضروات وبالتالي على الإنتاج، وعادة ما تتغلب بعض البلدان على هذه الظروف بزراعة الخضروات في المساحات المظللة المحمية من الحرارة والرطوبة والآفات المرضية والحشرية، باستخدام ما يُعرف بالصوبات ( les serres maraichères ( المُتحكم في حرارتها ورطوبتها من خلال المراوح والتكييف وحمايتها من الحشرات ومسببات الأمراض، وتلك قصة أخرى بتقنياتها وتكاليفها ولسنا في وارد الحديث عنها اليوم، لأننا لا زلنا متأخرين جدا في زراعة الخضورات في المساحات المكشوفة أحرى تلك المغطاة، فبالإمكان التفكير فيها مستقبلا ولكن ليس الآن والقلوب لدى الحناجر..
وخلاصة القول، وأخذا في الإعتبار لما سبق، فإن هذه الخطة التي تعتزمها وزارة التنمية الريفية بدعم من البنك الدولي ضمن تدخلاته في الدول النامية للتخفيف من آثار جائحة كورونا حسب معلوماتنا، لن تكون سوى هدرا للموارد المالية وإطعامها للهيب الصحراء في عز الصيف! فلم تكن مواردنا المالية الشحيحة يوما تتحمل الهدر في الظروف العادية، أحرى اليوم والعالم مذهول ترقبا لمصيره المجهول، وكل أوقية لها مائة ألف وألف وجه من أوجه الصرف بدل الهدر!
فكل مناطق بلدنا التي تتوفر فيها المياه والأراضي الزراعية ملائمة لزراعة جميع أنواع الخضروات شتاء في الفترة ما بين نوفمبر ومارس، ولا عائق لزراعتنا لجميع أنواع الخضروات في هذه المناطق وخلال هذه الفترة سوى غياب الإرادة وكسل أفراد المجتمع، أما ابتداءا من شهر ابريل فتبدأ دراجات الحرارة في الإرتفاع في أغلب مناطق البلد وإلى غاية شهر نوفمبر، ولا يكون هناك من أنواع الخضروات ما هو قادر على التكيف مع هذه الظروف سوى أنواع قليلة جدا منها مثل الباميا والباذنجان، أو أنواع من القرعيات ( القرع، والبطيخ، والشمام ) وإن كان البطيخ والشمام يُحسبان فاكهة وليسا خضروات..
وما عدا ذلك فلا علم لنا بمنطقة من مناطق بلدنا تصلح صيفا و خريفا لزراعة جميع أنواع الخضروات سوى منطقة واحدة هي منطقة كرمسين، ليس بتوفرها على الماء والأراضي الزراعية الصالحة فحسب، إذ أن هناك مناطق عديدة من البلد تتوفر عل هذه المقدرات، وإنما لطبيعة المناخ المعتدل لهذه المنطقة صيفا وخريفا، وكان بإمكاننا أن نذكر معها من هذه الناحية منطقة نواذيبو الساحلية هي الأخرى لولا شح المياه هناك، منطقة كرمسين التي أصبحت اليوم قطبا تنمويا بميزات مجتمعة لا تتوفر في أي من مناطق بلدنا الأخرى حيث الأرضي الزراعية الواسعة، والمياه، والتنمية الحيوانية، والمناخ المعتدل، والسياحة، والصيد بشقيه الشاطئي والنهري، ومؤخرا احتياطات الغاز.. بإمكانها أن تُتَّخذ أيضا سلة البلاد من الخضروات في المواسم أو الظروف المناخية التي لا تكون خلالها المناطق الأخرى ملائمة لزراعة الخضروات، خصوصا بعد شق قناة آفطوط للري في هذه المنطقة وما وفرته من عشرات آلاف هكتارات الأراضي الثقيلة الصالحة لزراعة الأرز، لكن آلاف هكتارات الأراضي الخفيفة الصالحة لزراعة الخضروات ايضا، والتي يمكن ري مساحات كبيرة منها بواسطة الري الإنسيابي دون الحاجة للمضخات والوقود، مع ميزة أخرى هي توفر خطوط الكهرباء على طول هذه القناة وما يفتحه ذلك من آفاق إنشاء محطات حفظ الخضروات بطاقة كبيرة، بل والصناعات التحويلية لها، هذا بالإضافة إلى قرب هذه المنطقة من أكبر أسوق البلاد، مدينة نواكشوط وارتباطها معها بالطرق، واحتوائها على أحد أكبر موانئ المنطقة، ميناء انجاكو متعدد الوظائف.
لكن كل ذلك لا يجعلنا نقول إن هذه المنطقة صالحة أو جاهزة اليوم لخطة وزارة التنمية الريفية لزراعة الخضروات صيفا، فما زال رجاؤها هو تأجيل هذه الخطة في الوقت الحالي، والعمل بدلا من ذلك ومن الآن على تهئية الظروف لحملة شتوية للخضروات في عموم التراب الوطني حيثما كانت الأراضي الصالحة والمياه، وفي نفس الوقت الإعداد لحملة صيفية خريفية في منطقة كرمسين يبدأ تنفيذها ابتداءا من صيف 2021، ليكون ذلك هو برنامج زراعة الخضروات مستقبلا، أي زراعة الخضروات شتاء في كل المناطق الزراعية في البلاد، وزراعة حاجيات البلاد من هذه الخضروات صيفا في هذه المنطقة الساحلية، ولتكون الدولة بالتهيئة لهذا البرنامج من اليوم، بمثابة الطائر الحامل للبيض فيبدأ في جمع القش لبناء عشه حتى إذا حان وقت وضع البيض يكون العش جاهزا، إذ لو لم يقم بذلك في وقته لوضع بيضه في العراء ولكانت فراخه عرضة للحرارة والبرد والأعداء.. وذلك هو ما سيكون مصير حملة لزراعة الخضروات صيفا، الشي الذي لم ينجح في الماضي لارتباطه بالمناخ ولن ينجح اليوم، فوباء كورونا أغلق الحدود وعطل التبادل التجاري، لكنه لم يُغير المناخ..
أما ما أقصده بالتهيئة لهذه الخطة فسيكون هو موضوع الجزء الثاني من هذا المقال بحول الله.