حول: مآلات التحقيق البرلماني : قراءة قانونية / سعيد مبارك  

تحاول هذه الورقة المساهمة ـ ولو بشكل متواضع ـ في الإجابة على الأسئلة الكثيرة  التي تثار هذه الأيام عن مآل التحقيق البرلماني الحالي ، وبغض النظر عن الجدل  القانوني الذي  يثيره التحقيق البرلماني.

وكمدخل لهذا الموضوع نستعرض دور اللجنة ـ رغم صعوبة ذلك نتيجة غموض النظام الداخلي من جهة، وعدم تبويبه على جميع دورها من جهة أخرى ـ الذي ينحصر وفق النظام الداخلي في إعداد تقرير تسلمه للجمعية الوطنية في أجل  ستة أشهر (المادة 124)     ـ رغم غموضها ـ ، والتي عنونت بـ" إنتهاء أعمال لجنة التحقيق" وفي القاموس الإداري يميز بين الإنهاء والانتهاء فالأول يحيل إلى صدوره من الجهة  التي تملك ذلك وفق حالات محددة، أما الانتهاء فيكون وفق آجال محددة ـ ستة أشهر مثلا في هذه الحالة ـ أو عند تحقيق الغرض الذي من أجله أنشئت اللجنة. وزيادة على ذلك  فقد تناولت المادة 124 أيضا مقتضيات تدخل في إطار مسطرة الإنشاء،  كإشعار وزير العدل بمقترح تشكيل اللجنة...

وعموما فإن القراءة الكلية للمادتين 123 و 124  ونقاشات البرلمانيين حولها يحيل إلى أن مهمة اللجنة تنحصر في تقديم تقرير في أجل ستة أشهر حول المواضيع التي يشملها التحقيق، وإلا يتم حلها تلقائيا.

 ولا يمكن أن يخرج تعامل البرلمان مع تقرير لجنة التحقيق عن الاحتمالات التالية:

الأول: أن يرى البرلمان أن التقرير لم يتوصل إلى أدلة تثبت حصول فساد حول القضايا التي شملها التحقيق؛

الثاني : أن يرى البرلمان أن التقرير توصل إلى نتائج  تثبت حصول فساد، لكن تحتاج إلى تعميق، بل وحتى إلى توسيع الملفات المحقق حولها، وفي هذه الحالة لم يبوب النظام الداخلي على هذا الاحتمال، بل اكتفى فقط بتنظيم تشكيل لجان التحقيق بشكل عام وفق، مسطرة موحدة، على عكس بعض التجارب المقارنة كفرنسا مثلا، إذ نجد أن القانون رقم 58-1100 منع تشكيل لجنة تحقيق ثانية إلا بعد مرور 12 شهرا  على انتهاء عمل اللجنة التي سبقتها.

الثالث: أن يرى البرلمان أن التقرير تضمن أدلة مدعمة تثبت ارتكاب جرائم فساد، وفي هذه الحالة يكون أمام البرلمان احتمالين إما اللجوء إلى محكمة العدل السامية ـ الحاضرة الغائبة ـ (المآل الأول) رغم المعوقات التي تعترض هذا الخيار، وإما توجيه التقرير إلى وزير العدل (المآل الثاني) وهذا هو الخيار الوارد، وحينها  لم يعد للبرلمان أي دور فيه.

المآل الأول: اللجوء إلى محكمة العدل السامية: إن اللجوء لمحكمة العدل السامية ـ الحاضرة الغائبة ـ تعترضه معوقات عدة، فعلى المستوى الدستوري نصت المادة 92  من الدستورـ بعد تعديل 2017 ـ على إنشاء محكمة عدل سامية  تتشكل من أعضاء منتخبين، من بين أعضاء الجمعية الوطنية، بعد كل تجديد عام ـ وهو ما لم يقع، باستثناء تجربة 2008 رغم ما تثيره من إشكاليات ـ ، لكن القانون المنظم لها حتى الآن هو القانون رقم 21-2008 ، والذي لم يتم تكييفه  تحت الآن مع التعديلات الدستورية الأخير ة لسنة 2017 حيث مازال ـ مع قوانين أخرى ـ يحفظون العهد للغرفة الثانية من البرلمان رغم إلغائها دستوريا، وبالتالي مازال ينص على تشكيل محكمة العدل السامية بالتناصف بين مجلس الشيوخ وبين الجمعية الوطنية، وهو ما يقف عائقا ـ ظرفيا ـ أمام اللجوء لمحكمة العدل السامية، بإضافة إلى معوقات أخرى تتعلق بمدى اختصاص المحكمة في جرائم الفساد؟ ويتوقف ذلك على استجلاء قصد المشرع الدستوري لمفهوم الجرائم الواردة في المادة 92 منه،  خاصة أن القانون الحالي المنظم لمحكمة العدل السامية لن يسعف في توضيح قصد المشرع الدستوري، حيث اكتفى فقط  بالنص على عدم إمكانية رفع دعوى القيام بالحق المدني أمام محكمة العدل السامية،  وكذلك دعوى التعويض  المترتبة على الجنح والجنايات المتابعة أمام محكمة العدل السامية، حيث نص أنه لا يمكن النظر فيها إلا أمام محاكم القضاء العادي (المادة 27).

وبالتالي فإن مهمة تكييف جرائم الفساد ضمن اختصاص محكمة العدل السامية يحتاج جهدا معرفيا كبيرا، فلا استدعاء القانون الجنائي  ـ العام ـ يفيد في هذا الشأن، حيث لم يؤطر الأمر القانوني رقم : 162 – 83 المتضمن القانون الجنائي  جريمة الفساد،  وحتى القوانين الجنائية الخاصة، لم تسعف في هذا الشأن. ورغم ذلك نص القانون رقم 040-2015 المتضمن القانون التوجيهي لمكافحة الفساد في مادته الأولى على أنه  يعتبر فسادا: " كل استغلال من طرف وكيل عمومي لوظيفته  لأغراض شخصية على حساب الدولة أو منظمة أو هيئة مستقلة أو مجموعة محلية أو منظمة أو هيئة مستقلة ..." كما اعتبرت نفس المادة أنه يدخل في مقتضيات هذا القانون  كل شخص يشغل منصبا انتخابيا أو تنفيذيا أو قضائيا سواء كان معينا أو منتخبا بصفة دائمة أو مؤقتة أو كان مأجورا أم غير مأجور بصرف النظر عن مستواه الهرمي ".

وجاء في المادة الخامسة (5) "تسهر الدولة على استرجاع الأملاك والأموال المختلسة أو تلك التي تم الحصول عليها بصورة غير شرعية..."

لكن ما يثيرا لانتباه في هذا القانون هو عدم إضفاء صبغة  التجريم على أي من مقتضياته، رغم أنه  اتخذ من محاربة الفساد اسما له.

المآل الثاني:  إحالته نتائج التحقيق إلى وزير العدل : يتمثل المآل الثاني لنتائج التحقيق في إحالتها إلى وزير العد، وهو خيار يبقى الأكثر واقعية، نظرا للإكراهات التي تعترض اللجوء لخيار محكمة العدل السامية.

وغني عن التوضيح أن إحالة الملف لوزير العدل لا يرتب أي إلزامية على تحريكه للدعوى العمومية في الملف، بل يبقى لوزير العدل السلطة التقديرية في تحريكها من عدمه.

فأي المآلات سيؤول إليها التحقيق البرلماني الحالي؟ وهل سيلجأ البرلمان إلى تنظيم التحقيق البرلماني بقانون، وفق مقتضيات المادة 72 من الدستور واقتراح قانون ينظم قواعد التحقيق البرلماني بشكل عام، على غرار التجارب المقارنة وخاصة فرنسا التي ينظم العمل البرلماني فيها بقانون (الأمر القانوني 58-1100)، بل أكثر من ذلك أفردت قانونا خاصا للجان التحقيق هو القـانون رقم 91-698 الصادر بتاريخ 20/02/1991، ومن جهة أخرى لأن الحكومة بموجب المادة ـ 71 من الدستور ـ ليست ملزمة بالرد على الإيضاحات  التي يطلبها  منها البرلمان حول تسييرها ونشاطاتها،إلا وفق الصيغ التي يحددها القانون، وهو ما  يتطلب من البرلمان الإسراع في إعداد مقترح ـ وفقا للمادة  72 والمادة 45 من الدستورـ  يحدد قواعد الرقابة البرلمانية بشكل عام  تفعيلا للمشروعية ورفعا للحرج من الاستناد إلى النظام الداخلي، الذي يجب أن تنحصر مقتضياته في التنظيم الداخلي للبرلمان ـ رغم غياب أساس دستوري واضحا له ـ ، والارتقاء بتنظيم عمله الخارجي  إلى درجة القانون.

15. أبريل 2020 - 18:00

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا