أمام تبادل الإتهامات وتعليق الإخفاقات والفشل بين الصين و أمريكا حول جائحة كوفيد19 الذي فتك بالعالم وأنهارت بسببه المنظومة الصحية العالمية وخلف آلالاف القتلى والإصابات ، لاتزال الشعوب والدول حائرة و مندهشة من هذا الحدث الفجائي وهذه القوة القاهرة ولم يعرفوا بعد أصله وطبيعته ومكوناته ، بل هناك من يفسر ظهوره بأنه غضب إلهي بسبب كثرة الذنوب وفريق آخر يعتبره سلاحا بيولوجيا و صراعا بين الشرق والغرب حول الهيمنة والريادة الدولية وهناك من ركز على كيفية الوقاية منه والتدابير الإحترازية لمحاربة إنتشاره فقط دون الخوض في الأسباب والمسببات والمكونات .
ويعتبر هذا المرض المستجد التاجي إفتراضي وقاتل ولا يرى بالعين المجردة وسريع الإنتشار والعدوى وأوقف العالم لحظة واحدة وجعله مشلولا و حائرا يتكبد الخسائر المادية والإقتصادية .... حتى إكتفت كل دولة بالإنغلاق على نفسها وأوصدت حدودها ومعابرها وتبخرت فكرة الإتحادات الإقليمية والكتل الاقتصادية والمنظمات القطرية والقارية ، وكأن العالم سيولد من جديد وستتشكل معالمه وأصبحت الدول تتموقع من جديد ضاربة بعرض الحائط المعاهدات والبروتوكولات التي كانت تجمعها بدول أخرى وأحلاف ومحاور دولية وكأن هذا الفيروس أنهى مفهوم العولمة والقطبية الأحادية والهيمنة الأمريكية ليؤسس لمفاهيم دولية جديدة تربط دول العالم فيما بينها وبأدوات ووسائل حديثة ربما تعزز نظام القوميات والإستبداد و كثرة المطالب الاجتماعية وإنهيار دول كانت قوية قبل كورونا وأنهى هذا المرض بعض الحروب والمناوشات .
في هذه الظروف الإستثنائية إكتفت كل دولة بفرض خطة وطنية خاصة بها مطبقة فكرة " التباعد الاجتماعي" لأنه هو المخلص والمنقذ من هذا الوباء كما ترى هذه الدول ريثما يوجد الدواء واللقاح المناسب لهذا الوباء الفتاك، لأن بعض الدول الأوربية سخروا من هذا المرض التاجي وإستخدموا فكرة "مناعة القطيع" لأنهم يفضلون الأرباح والمنفعة الاقتصادية عن الأرواح البشرية كما في بريطانيا وأمريكا وكانت النتائج كارثية وكبدت الدولتان خسائر فادحة على المستوى السياسي والإقتصادي والإجتماعي والأخلاقي وتبعات إنتخابية سيئة.
فالعالم بجميع مؤهلاته الكبيرة والضخمة من شركات عملاقة ورساميل خيالية ومخابر ومعاهد متطورة جدا تبحث بشراهة عن طريقة لإكتشاف الدواء واللقاح والمصل المنقذ للإنسانية لكنها دون جدوى لحد الآن وستطول مدة البحث إلى حوالي سنة على وجه التقريب لأن السياسة إمتزجت بالمال والنفوذ والأرباح وهو ما سيعرقل سرعة الإيجاد والبحث والتجربة والتمويل.
كما أن فيروس كورونا من بين إيجابياته أنه وحد وساوى بين الدول الفقيرة والغنية وبين المنظومات الصحية المتطورة وتلك المنعدمة وبين السياسي والحقوقي والمتشرد والمعدم والعالم والجاهل ، ودق هذا المرض التاجي ناقوس الخطر لتغيير نظرة العالم الليبرالي المتوحش الذي يبحث عن الربح والمنفعة الاقتصادية بدل القيم والأخلاق والمبادئ الإنسانية السمحاء ، وأصبح العالم يفكر في تجديد قوانينه ونظمه وسياساته نحو الاهتمام بالإنسان وقيمته كفرد في المجتمع بدل ما ينتجه وما يقدمه من منفعة رأسمالية وثروة مادية تلغي القيم والأخلاق والمبادئ الإنسانية والحقوق الكونية .
إضافة إلى أن هذه الجائحة قدمت للعالم دروسا يجب إلتقاطها وهي أن الاهتمام بالأمن الصحي أصبح حتميا بدل سياسات واهية مضللة كالأمن الإستراتيجي وغزو الفضاء ومحاربة الإرهاب والسباق نحو التسلح ، كما يجب التركيز أيضا على دعم البحث العلمي والصناعة الصيدلانية والدوائية ناهيك عن تقوية إقتصاد المعرفة والتكنولوجيا الرقمية والتكفل بالعلم والعلماء والكفاءات ، علاوة على ضرورة بناء مجتمعات متضامنة ومتآزرة ومؤسسات إجتماعية ترعى الفرد والمجتمع رعاية حقيقية مع وجوب التعبئة الوطنية لبناء الدولة و الإقتصاد خاصة الدول العربية التي تتوفر على الثروات المعدنية والطاقية والبحرية الكثيرة فهي مؤهلة أكثر للإزدهار والإقلاع إذا توفرت على حواضن ديمقراطية تسودها مبادئ الحرية وحقوق الإنسان وتطبيق القانون والقضاء النزيه والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية .
العالم سبق له أن مر من هكذا أوبئة وكوارث عارضة وتعافى منها بشكل تدريجي وتغلب عليها إما عن طريق إكتشاف لقاحات وأدوية ضد الفيروس أو الإنتصار في هذه الكوارث بابتكار حلول جذرية ومن ثم فترة التعافي وإزالة المرض نهائيا ، كما يمكن للمنتصر والغالب في هذه الحرب السيطرة على العالم والهيمنة عليه مثل ما وقع بعد الحرب العالمية الثانية والأوبئة التي ظهرت قبلها كالجذري والكوليرا وكالإنفلونزا الإسبانية سنة 1918 والطاعون في فرنسا أو الموت الأسود في بداية القرن الرابع عشر الميلادي الذي ذهب ب حوالي 200 مليون من سكان القارة الأوربية وآسيا وشمال إفريقيا ، وظهر كذلك طاعون لندن العظيم سنة 1665.
عموما كورونا ستغير ملامح العلاقات الدولية وسترسم محاور وأقطاب ولكن ليس في القريب العاجل ، لأن تبعات وتداعيات هذه الجائحة كبيرة وباهضة الثمن على المستوى الاقتصادي والسياسي كإنهيار البورصات العالمية وإنخفاض أسعار البترول وإنكماش إقتصاد العالم في كل المجالات وتسريح العمال وإرتفاع نسبة البطالة وطلب الإستدانة الخارجية من المؤسسات المالية الدولية المانحة لتصحيح الوضع لكل دولة لتعويض العمال والشركات والموظفين وخسائر الجائحة العالمية.
فكورونا أيضا سترجع للدولة دورها القديم المتمثل في الدولة الحارسة والدركية الإستبدادية ردحا من الزمن حتى يتعافى العالم من هذا الوباء نهائيا لتبدأ مرحلة البناء والتشييد ولكن هذه المرحلة تبقى فرصة سانحة للدول العربية والإسلامية لتقوية إقتصاداتها وتموقعها في العالم الجديد الذي سيعتمد على التعاون والتضامن والمعرفة والرقمنة والتكتلات بعيدا عن الصرعات الجوفاء التي لا تقدم ولا تؤخر بل تتركهم ـ كما قبل كورونا ـ في ذيل التصنيفات الدولية ، كما سيزداد الاهتمام بالشعوب والأبعاد الاجتماعية والحكم المحلي وإنتقال العولمة من الغرب إلى الشرق خصوصا الدول التي إهتمت بالعلم والصناعة الرقمية والإنتاج التكنولوجي .