(العلاقة بين التوحيد والتنزيه) بالعودة لتعريف التوحيد يتضح لنا بشكل جلي أن المراد بالأحد هو ما يكون واحدا من جميع الوجوه، لأن الأحدية هِي البساطة الصرفة عن جميع أنحاء التعدد متصلا كان أم منفصلا.
فالله سبحانه وتعالى واحد لا ثاني له لأن الإثنين كما يقول الإمام الأشعري رحمه الله: "لا يجري تدبيرهما على نظام ولا يتسق على إحكام، ولابد أن يلحقهما العجز أو واحدا منهما، لأن أحدهما إذا أراد أن يحي إنسانا وأراد الآخر أن يميته، لم يخل أن يتم مرادهما جميعا أو لا يتم مرادهما أو يتم مراد أحدهما دون الآخر.
ويستحيل أن يتم مرادهما جميعا لأنه يستحيل أن يكون الجسم حيا ميتا في حال واحدة، وإن لم يتم مرادهما جميعا وجب عجزهما والعاجز لا يكون إلها ولا قديما ، وإن تم مراد أحدهما دون الآخر وجب العجز لمن لم يتم مراده منهما والعاجز لا يكون إلها ولا قديما، فدل ما قلناه على أن صانع الأشياء واحد"
وهذا ما يسمى بدليل التمانع وهو الوارد في الآية الكريمة :(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) .
انطلاقا من ذلك فإن توحيد الله سبحانه وتعالى لا يتحقق إلا بتنزيهه عن مشابهة الحوادث وما يخطر بالبال، وهنا يتنزل حديث الفقيه المالكي ميارة رحمه الله عن أوجه الوحدانية حين قال رحمه الله: "أوجه الوحدانية ثلاثة: وحدانية الذات، ووحدانية الصفات، ووحدانية الأفعال، فوحدانية الذات تنفي التركيب في ذاته تعالى ووجود ذات أخرى تماثل الذات العلية فتنفي التعدد في حقيقتها متصلا كان أو منفصلا ووحدانية الصفات تنفي التعدد في حقيقة كل واحد منها متصلاً كان أو منفصلاً فعلم مولانا جل وعز ليس له ثانٍ يماثله لا متصلا أي قائما بالذات العلية ولا منفصلاً أي قائما بذات أخرى بل هو تعالى يعلم المعلومات التي لا نهاية لها بعلم واحد لا عدد له ولا ثاني له أصلا وقس على هذا سائر صفات مولانا جل وعز، ووحدانية الأفعال تنفي أن يكون ثم إختراع لكل ماسوى مولانا جل وعز في فعل مامن الأفعال بل مولانا جل وعز هو المنفرد باختراع جميع الكائنات بلا واسطة "
وفي القرآن الكريم تم الجمع بين التوحيد والتنزيه في آيات كثيرة، منها تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) بل حل التنزيه في بعض الآيات محل التوحيد نفيا للشرك بالله كما في قوله تعالى:( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) وقوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)
ويمكن القول إن سورة الإخلاص هي سورة التوحيد والتنزيه قال تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) .
ويقول الإمام الرازي عند حديثه عن هذه السورة أنه "اشتهر في التفسير أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ماهية ربه وعن نعته وصفته فانتظر الجواب من الله تعالى فأنزل هذه السورة إذا عرفت ذلك فنقول هذه السورة يجب أن تكون من المحكمات لا من المتشابهات لأنه تعالى جعلها جوابا عن سؤال المتشابه بل وأنزلها عند الحاجة وذلك يقتضي كونها من المحكمات لا من المتشابهات وإذ ثبت هذا وجب الجزم بأن كل مذهب يخالف هذه السورة يكون باطلا فنقول إن قوله تعالى أحد يدل على نفي الجسمية ونفي الحيز والجهة أما دلالته على أنه تعالى ليس بجسم فذلك لأن الجسم أقله أن يكون مركبا من جوهرين وذلك ينافي الوحدة، وقوله أحد مبالغة في الواحدية فكان قوله أحد منافيا للجسمية"
ويؤكد ما ذهب إليه الإمام الرازي ما رواه الطبري في تفسيره وابن هشام في سيرته: أن رهطا من اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد هذا الله خلق الخلق، فمن خلقه؟ فغضب النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى انتُقِع لونه، ثم ساورهم غضبا لربه، فجاءه جبريل عليه السلام فسكنه، وقال: اخفض عليك جناحك يا محمد، وجاءه من الله جواب ما سألوه عنه. قال: " يقول الله: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) " فلما تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: صف لنا ربك كيف خلقه، وكيف عضده، وكيف ذراعه، فغضب النبيّ صلى الله عليه وسلم أشدّ من غضبه الأول، وساورهم غضبا، فأتاه جبريل فقال له مثل مقالته، وأتاه بجواب ما سألوه عنه: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) .
وروى عطاء عن ابن عباس قال: قدم وفد نجران، فقالوا: صف لنا ربك أمن زبرجد أو ياقوت أو ذهب أو فضة؟ فقال: إن ربي ليس من شيء لأنه خالق الأشياء فنزلت: قل هو الله أحد قالوا: هو واحد، وأنت واحد، فقال: ليس كمثله شيء، قالوا: زدنا من الصفة، فقال: الله الصمد فقالوا: وما الصمد؟ فقال: الذي يصمد إليه الخلق في الحوائج، فقالوا: زدنا فنزل: لم يلد كما ولدت مريم: ولم يولد كما ولد عيسى: ولم يكن له كفوا أحد يريد نظيرا من خلقه."
وورد في القرآن الكريم الجمع بين التنزيه والتوحيد في نفس الآية ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ)
وهكذا يتضح أن التوحيد جوهر عقيدة الإسلام والتنزيه أساس التوحيد، فهما متلازمان فلا يمكن أن تكون موحدا إلا إذا كنت منزها فالتوحيد يقوم "على تنزيه اللَّه في ذاته وصفاته وأفعاله.
و رسالة التوحيد التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم تقتضي اعتقاد تنزيه المولى سبحانه وتعالى عن الشريك وعن مشابهة الحوادث وكل ما سوى الله حادث، وذلك هو حاصل ما أمر الله سبحانه وتعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم في قوله :(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) وقوله سبحانه :( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) وقوله تعالى :(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ)
وهذه العقيدة أيضا هي نفسها العقيدة التي جاء بها الرسل قبله كما في محكم التنزيل:(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ)
وقال سبحانه :(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)
فالله سبحانه وتعالى شرع لنا من الدين ما شرع لقوم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى..إلخ وأمرهم بما أمرنا به من توحيد وتنزيه "ثم بين ذلك بقوله تعالى:" أن أقيموا الدين" وهو توحيد الله وطاعته، والإيمان برسله وكتبه وبيوم الجزاء، وبسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلما. ولم يرد الشرائع التي هي مصالح الأمم على حسب أحوالها، فإنها مختلفة متفاوتة" لقوله الله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا).
وقال تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين (74) وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين )
وقال تعالى في شأن موسى عليه السلام وأمته : (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ).
وفي شأن عيسى عليه السلام، قال تعالي: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)
وعليه فإن "أتباع الأنبياء والرسل السابقين الذين آمنوا وصدقوا رسلهم كان التوحيد فيهم خالصا صافيا في عهوده الأولى"ثم حدث الانحراف الذي سنتحدث عنه في المحور الأخير من هذا الكتاب.
فرسالة التوحيد والتنزيه التي جاء بها الأنبياء وإن اختلفت الشرائع العملية واختلفت الآيات والبراهين المصدقة للرسل، إلا أن جوهر الرسالات هو نفسه توحيد وتنزيه فدعا كل رسول قومه لتوحيد الله سبحانه، ومن أبلغ ذلك ماورد في سورة الأعراف من اتحاد اللفظ مع اختلاف الرسل وأقوامهم، فالله سبحانه يقول في شأن هود عليه السلام مع قومه:( وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) وفي شأن صالح عليه السلام وقومه:( وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) وفي شأن شعيب عليه السلام وقومه:( وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ)
ثم ختم الله رسله بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وختم الأمم بأمته والكتب بالكتاب الذي أنزل عليه، وأقام سبحانه الحجة على البشرية بالرسل فقال سبحانه:(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ) وكلهم دعوا لعبادة الله الواحد وتنزيهه عن ما يخطر في العقول البشرية القاصرة ولم يرض الله سبحانه من عباده إلا أن يوحدوه وينزهوه عن مشابهة الخلق وكل ماسوى الله هو خلقه (اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) ،وهو القديم سبحانه بلا بداية وكل ماسوى الله حادث ولم يرض سبحانه أن يشرك به خلقه : {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ، وقال تعالى: (مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ).
وقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم وعقيدة كل مسلم هي توحيد الله وتنزيهه سبحانه وتعالى عن جميع صفات خلقه وعن كل وصف لايليق بجلاله، وجميع المسلمين "على منهاج واحد في أصول الدين وفروعه،غير من أظهر وفاقا وأضمر نفاقا".
إلا أن عوامل -داخلية طرأت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وأخرى خارجية نشأت بفعل اختلاط المسلمين بغيرهم من الأمم- عادت بالتشبيه المنافي لعقيدة التوحيد والتنزيه فتسربت عقيدة التشبيه والتجسيم إلى المسلمين ووجدت من ينتصر لها من أهل العلم بحجة الخوف من التعطيل و"هو نفي أسماء الله وصفاته أو بعضها. ومن صوره ما يعتقده غلاة الجهمية والقرامطة الذين لم يثبتوا لله اسماً ولا صفة، فعطلوا أسماء الرب تعالى وأوصافه وأفعاله، بل جعلوا المخلوق أكمل منه إذ كمال الذات بأسمائها وصفاتها." وتعصب المشبهون كما تعصب المعطلون، ومن الطبيعي أن يهيج التعصب "بواعث التمادي والإصرار. فأكثر الجهالات، كما يرى حجة الإسلام الغزالي: "إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال أهل الحق أظهروا الحق في معرض التحري والادلاء، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والإزراء. فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة ورسخت في نفوسهم الاعتقادات الباطلة وعسر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها."