مفهوم التشبيه وعقائد المشبهين . رغم ما ذكرناه في المحور الأول من أن عقيدة التوحيد والتنزيه، هي عقيدة جميع الأنبياء والرسل عليهم السلام إلا أن خلقا كثيرا –عبر تاريخ البشرية - حاد عن سبيل التوحيد والتنزيه، فكم من أمة كذبت الرسل واتخذت أربابا من دون الله فجعلوا لله شركاء وشبهوا الله سبحانه وتعالى بخلقه، واعتقدوا في الله سبحانه أحيانا ما ننزه عنه بعض المخلوقات!؟، ولنا أن نتساءل هنا نيابة عن القارئ :ماذا نقصد بالتشبيه؟
مفهوم التشبيه
التشبيه : في اللغة الدلالة على مشاركة أمرٍ لآخر في معنى، فالأمر الأول هو المشبه، والثاني هو المشبه به، وذلك المعنى هو وجه التشبيه، أو وجه الشبه، فالتشبيه مصدرٌ مشتق من الفعل "شبّه".
وفي اصطلاح علماء البيان كما يقول الجرجاني: هو "الدلالة على اشتراك شيئين في وصف من أوصاف الشيء في نفسه"
وقال الكفوي: التشبيه: في اللغة التمثيل مطلقا؛ وفي الاصطلاح: هو الدلالة على اشتراك شيئين في وصف من أوصاف الشيء الواحد في نفسه"
والتشبيه عند إمام الحرمين الجويني رحمه الله: "قد يطلق والمراد به المشابهة فيقال لمعتقده مشبه، كما يقال لمعتقد الوحدانية موحد. وقد يطلق التشبيه والمراد به الاخبار عن تشابه المتشابهين، وقد يطلق والمراد به إثبات فعل على مثال فعل فيقال للذي رام فعلا يشبه فعلا، قصد تشبيه فعله بفعله غيره، وقصد تشبيه فعله اللاحق بفعله السابق."
وتشبيه الله سبحانه وتعالى بخلقه كما عرفنا من خلال المحور الأول هو منكر من القول وزور وانحراف عن العقيدة الصحيحة، وقد نهى الله سبحانه عن التشبيه والتمثيل، قال تعالى: (فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)
قال الطبري: فلا تمثلوا لِلهِ الأمثال، ولا تشبِّهوا له الأشباه، فإنه لا مِثْل له ولا شِبْه. وقال الماتريدي: لا تتخذوا لله أمثالا من الخلق وأشباها في ألوهيته وعبادته، أو لا تقولوا لله إن له أشباهًا وأمثالا.
أولا: التشبيه عند غير المسلمين
بعودة بسيطة إلى قصص الأنبياء والرسل عليهم السلام مع أقوامهم، وبالعودة إلى كتب تاريخ الإنسانية بشكل عام، سنجد أن بعض البشر دائما ما يجنحون إلى ما يعقلونه فلا تتصور عقولهم أن تعبد إلا ما تدركه وتحيط به فهما.! تعالى الله عن ذلك، وغالبا ما تكون السمة المشتركة بين تلك "المعبودات" على اختلاف الأمم أنها أجسام أو متصفة بصفات الأجسام.
يقول الدكتور زغلول النجار: إن من مآسي البشرية الانحدار بمفهوم الألوهية إلى طبيعة البشر، أو الحجر، أو الشجر، أو الحيوانات، لأن هذا إهدار كبير وانحراف شديد عن حقيقة الألوهية"
والنماذج على ذلك كثيرة جدا فقوم نوح عليه السلام نزل فيهم قوله تعالى: (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا)
وهذه الأسماء قيل أنها لرجال "صالحين من بنى آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صوّرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوّروهم، فلما ماتوا، وجاء آخرون دبّ إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقون المطر فعبدوهم".
ومن المفسرين من ذكر أن "جسد آدم - عليه السلام - كان عند نوح - عليه السلام - يترك كل مؤمن في زمانه أن يدخل فينظر إلى جسد آدم عليه السلام ومن لم يكن مؤمنا لم يدعه أن ينظر إليه، فجاء إبليس إلى الكفار فقال: أيفخر نوح ومن آمن به عليكم بجسد آدم وأنتم كلكم ولده؟ فصنع لكل قوم صنما على صورة آدم - عليه السلام - فكانوا يعبدون تلك الصورة.
وقيل: كانت آلهة يعبدها قوم نوح، ثم عبدتها العرب بعد ذلك، قال: فكان ودّ لكلب بدومة الجندل، وكان سُواعٌ لهُذَيل، وكان يغوث لبني عطيف من مراد بالجُرف، وكان يعوق لهمْدان، وكان نَسْر لذي الكُلاع من حِمْير.
وكان في اليهود والنصارى من أشرك بالله وشبه قال تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون)
ويقول الإمام الرازي : لا فرق بين من يعبد الصنم وبين من يعبد المسيح وغيره لأنه لا معنى للشرك إلا أن يتخذ الإنسان مع الله معبودا، فإذا حصل هذا المعنى فقد حصل الشرك، بل إنا لو تأملنا لعلمنا أن كفر عابد الوثن أخف من كفر النصارى، لأن عابد الوثن لا يقول إن هذا الوثن خالق العالم وإله العالم، بل يجريه مجرى الشيء الذي يتوسل به إلى طاعة الله. أما النصارى فإنهم يثبتون الحلول والاتحاد وذلك كفر قبيح جدا، فثبت أنه لا فرق بين هؤلاء الحلولية وبين سائر المشركين"
ويرى أحد رواد علم الأديان وهو الأستاذ أحمد شلبي أن بني إسرائيل "لم يستطيعوا في أية فترة من فترات تاريخهم أن يستقروا على عبادة الله الواحد الذي دعا له الأنبياء وكان اتجاهمم إلى التجسيم والتعدد والنفعية واضحا في جميع مراحل تاريخهم ...وتعد كثرة أنبيائهم دليلا على تجدد الشرك فيهم، وبالتالي تجدد الحاجة إلى أنبياء يجددون الدعوة إلى التوحيد"
مع أن التوراة التي بين أيديهم رغم ما فيها من تحريف، لا تخلوا من دعوة صريحة للتوحيد، ففي سفر الخروج قوله: ( لا يكن لك آلهة أخرى أمامي ، لاتصنع لك تمثالا منحوتا ولاصورة مما في السماء من فوق، وما في الأرض من تحت ، وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهن ولا تعبدهن ،لأني أنا الرب إلهك إله غيور)
وجاء في سفر التثنية أن الرب واحد : (ليس سواه).
ولكن في المقابل سنجد أن فيها من التشبيه والتجسيم وما يخالف التنزيه ما لايمكن لعاقل أن يصف به معبوده تعالى الله عن قولهم:
حيث "زعم اليهود في كتابهم أن الله عز وجل تعب من خلق السموات والأرض فاستراح في اليوم السابع، فقد ورد في سفر التكوين ما نصه (وفرغ الله في ليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل)
وفي سفر الخروج قالوا :(لأنه في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض وفي اليوم السابع إستراح وتنفس")
وقد رد الله عز وجل عليهم وبين بطلان قولهم هذا في قوله عز وجل {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ}
وكذلك وصفوا الله سبحانه بالندم تعالى الله عن قولهم " فمن ذلك قولهم في سفر الخروج (32/14) : (فندم الرب على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه)
وكذلك وصفهم لله عز وجل وتعالى وتقدس بالبكاء وذرف الدموع وفي هذا يقولون في كتابهم أن الله قال لهم (وإن لم تسمعوا - أي كلامه وتطيعوه- فإن نفسي تبكي في أماكن مستترة من أجل الكبرياء وتبكي عيني بكاءً وتذرف الدموع لأنه قد سبي قطيع الرب" )
فهذا كله لاشك أنه من افتراءات اليهود وسوء أدبهم مع الله عز وجل وهو دليل واضح على التحريف والتلاعب بكلام الله وكتب الأنبياء وفق أهوائهم وأمزجتهم.
ورغم أن المسيح عليه السلام بعث لتصحيح العقائد وشكل وجوده فرصة للعودة إلى توحيد الله وتنزيهه، وكما يقول الأستاذ أبو زهرة وهو يتحدث عن الحكمة من ولادة المسيح من غير أب، يقول: إن اليهود كانوا قوما ماديين، ربطوا الأسباب بمسبباتها، وسادت عندهم الفلسفة التي تقول: إن خلق الكون كان من مصدره الأول كالعلة من معلولها، فأراد الله سبحانه أن يوضح لهم أن قدرته هي التي ربطت الأسباب بمسبباتها، وأنها تستطيع أن تتجاوز هذا القانون فيوجد المسبب دون أن يوجد السبب فخلق الله عيى من غير أب لهذا، ومن مادية اليهود أيضا إنكار الروح واعتقادهم أن الإنسان مادة خلقت من مادة، فأراد الله أن يخلق إنسانا دون أن تكون المادة أساس له."
وقد ارتبط الانحراف في المسيحية عن الوحدانية إلى التثليث ومن التزيه إلى التجسيم والتشبيه، بشخصية شاءول (بولس)، ولذلك يرى الباحثون الغربيون أن المسيحية الحالية بهذه العناصر الجديدة هي من صنع هذا الرجل فهو من نقل عيسى من رسول إلى إله وابن الله الذي نزل ليضحي بنفسه للتكفير عن خطيئة البشر، وأنه عاد مرة أخرى إلى السماء ليجلس عن يمين أبيه..كل ذلك الانحراف ارتبط
مع أن الأناجيل المحرفة أيضا لا تخلوا هي الأخرى من إشارات لعقيدة التوحيد والتزيه، حيث ورد في انجيل يوحنا مثلا قوله عن المسيح:(وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته )
وفي انجيل متى :(لاتظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ماجئت لأنقض بل لأكمل)
ويروي مرقص قول عيسى : "الرب إلهنا إله واحد وليس آخر سواه"
أما ما في العهد الجديد كما يسمونه من تشبيه وتجسيم وشرك فهو أكثر من أن نتحدث عنه في بحث كهذا.
وهناك طائفة أخرى وهم الذين لم يهتدوا بهدي الأنبياء بل كذبوا الرسل وجحدوا الصانع تعالى وهم الكثرة الطاغية من أبناء البشر، فنجد بين الناس من عبد التماثيل المنحوتة من الحجارة أو المصنوعة من الخشب وهناك من عبد الشمس أو الأبقار والحيوانات والأصنام ، وهناك الملحدون وهم الذين ينكرون وجود الإله
وهناك من لم يعتني بالإله كالبوذيين فبوذا كما يقول شلبي: "لم يشغل نفسه بالكلام عن الإله إثباتا أو إنكارا، وتحاشى كل ما يتصل بالبحوث اللاهوتية، وماوراء الطبيعة، ومايتحدث عن القضايا الدقيقة وكان ينهى أصحابه وزواره أن يخوضوا في هذه الأبحاث ويوبخهم على سؤالهم عن مثل هذه القضايا. ولكن بوذا اتجه أحيانا إلى جانب الإنكار أكثر من اتجاهه إلى جانب الإثبات."
واتجه الفكر الهندوسي فيما يختص بالإله "إلى نزعة التعدد غالبا، وقد بلغ التعدد عندهم مبلغا كبيرا، فقد كان عندهم لكل قوة طبيعية تنفعهم أو تضرهم إله يعبدونه ويستنصرون به في الشدائد"