مقدمة : بعد إعلان خلو البلاد من إصابات مؤكدة بفيروس كورونا، اثر شفاء الحالات التي كانت تحت العزل، انقسم قادة الرأي في البلد ومتابعيهم حول إجراءات المرحلة الجديدة ما بين تيارين رئيسيين:
- تيار من يرون أن المكاسب المتحصل يجب صيانتها، بل وتعزيزها، بأي ثمن ومتابعة الإجراءات الاحترازية بنفس النفَس السابق، وهو الذي سنعبر عنه بتيار التحوط؛
- وتيار من يرون أن البلاد وصلت إلى بر الأمان بنفي وجود الوباء داخلها، ولم يبق لها من تحد إلا ضبط الحدود، وأنه ينبغي رفع كل التدابير الاحترازية السابقة أو على الأقل كل ما اشتمل على أدنى تقييد للناس في معاشهم أو شعائرهم أو حرياتهم الأساسية، وهذا التيار سنعبر عنه بتيار التوسعة.
وفي داخل كل من هذين التيارين آراء متعددة متفاوتة.
وسيتم في هذا المقال استعراض نقاط الاتفاق بين التيارين أولا، قبل ذكر ما يرتكز عليه كل تيار في طرحه، ثم أختم بمقترحات لعل فيها كلمة سواء بين التيارين الكبيرين الذين يتنازعان الرأي العام اليوم.
لطف الله أولا وأخيرا:
من لطف الله بالبلاد والعباد أن الله ألهم قادة القرار الرسمي في بلادنا اتخاذ إجراء مبكر بإغلاق المطارات ومن ثم الحدود؛ فلم تظهر في بلادنا من وباء كورونا المتفشي عالميا إلا حالات معدودة، قضى الله بوفاة إحداها، تقبلها الله في فسيح جناته، وبشفاء الباقيات، والحمد لله. وبفضل من الله تفرح بلادنا اليوم بكونها خالية من حالات مؤكدة الإصابة بفيروس كورونا.
ومن لطف الله كذلك أن هذا الوباء لم يهدد بلادنا إلا بعد أن انتقلنا إلى عهد سياسي جديد، جمع الله لنا فيه بين قيمتين برزتا، هما حكمة الموالاة وانضباط المعارضة؛ فحظيت قرارات فخامة الرئيس وإجراءات الحكومة المتخذة لمواجهة هذا الوباء بمستوى كبير من الفهم والتفهم من كل القوى الحية في المجتمع، وجنبنا الله في هذا الزمان الحرج نوعا من التجاذبات السياسية عهدناه حتى عهد قريب.
نقاط الإجماع في الرأي العام اليوم :
يبدو الرأي العام، وفق ما يعكسه التياران الممثلان له، مجمعا حول ضرورة إبقاء كل الحدود مغلقة، وبذل أقصى الجهود الممكنة لمنع التسلل عبرها، وإخضاع المتسللين الذين ضبطوا للحجر الصحي، ولا يبرز الخلاف هنا إلا في جزئية السماح للعالقين على الحدود بالدخول من عدمه.
كما يظهر الإجماع جليا على ضرورة قيام الدولة بكل التدخلات الممكنة لتخفيف آثار الإجراءات الاحترازية المتخذة على الأسر الفقيرة وأصحاب الدخول الهشة ومن في حكمهم، وإن اختلفت الآراء حول حجم التدخل المطلوب وطرق تنفيذه.
كما لم يظهر خلاف حول الإجراءات الوقائية ذات الطابع الفردي، مثل: ترك المصافحة، وغسل اليدين بالصابون، وارتداء الكمامات، والتباعد بين المصلين، واستخدام بعض المصلين لسجادة خاصة، والتباعد في الاجتماعات، ... وما أشبه ذلك.
فالناس ما بين من يرونها ضرورية، وبين من لا يرون بها بأسا.
منطق أصحاب تيار التحوط :
يوضح أصحاب هذا التيار، وهو السائد في دوائر القرار الرسمي، بأن ما تم من اكتشاف الحالات المؤكدة من فيروس كورونا، وعزلها، وتوفيق الله إلى شفائها، والمتابعة الناجحة للمحجورين صحيا، كل ذلك لا يعني الجزم بعدم وجود حالات كامنة لم تظهر عليها أعراض المرض، سواء كانت لمتسللين لم يتم التعرف عليهم وحجرهم أم كانت لمخالطين لهم.
كما أن مواصلة المرض لانتشاره في الدول المجاورة يجعل خطر دخول حالات جديدة ماثلا أمام العيان، خاصة في ظل وجود موريتانيين كثيرين خارج بلادهم ويودون الرجوع إليها؛ فهؤلاء، وإن كانوا في معظمهم صابرين والحمد لله، إلا أن منهم من قد لا يتوانون عن التسلل من أجل عودتهم إلى البلاد.
وتبعا لذلك يرى أصحاب هذا التيار أن مما تقتضيه المصلحة العامة:
- أن تبقى الحدود مغلقة بإحكام كما بدأت وأن تُحل مشاكل الموريتانيين خارج الحدود حيث كانوا؛
- وأن يُحافظ على منع التنقل بين الولايات، لما يضمنه ذلك من تثبيط لظاهرة التسلل، وتوفير لفرصة الإغلاق الجزئي لأي مدينة أو ولاية تظهر فيها حالات جديدة من المرض، لا قدر الله؛
- وأن يُحافظ كذلك على تطبيقات استيراتيجية التباعد الإجتماعي، الواسعة الاستخدام عالميا، والمرتكزة على المباعدة بين أنفاس الناس بأقصى ما يمكن من إجراءات. ذلك أن هذه الاستيراتيجية تعمل على تقليل احتمالات تفشي الوباء متى ما ظهرت حالات جديدة كامنة لا قدر الله.
وأصحاب تيار التحوط يرون، أن يستمر حيثما ما أمكن ذلك: إغلاق الأسواق؛ وتباعد الناس في وسائل النقل، وفي المساجد، وفي أماكن العمل، وفي الحياة الاجتماعية اليومية من خلال حظر التجول مساء، ...وهكذا.
منطق أصحاب تيار التوسعة :
يرى أصحاب هذا التيار أن ما تم من اكتشاف الحالات المؤكدة من فيروس كورونا، وعزلها حتى تأكد شفاؤها، وما تم من المتابعة الناجحة للمحجورين صحيا بهدف فحصهم حتى آخرهم، هو كل ما يلزم الدولة القيام بها، وقد قامت به.
ويرون أن الإجراءات التي اتخذت منذ البداية كانت بالفعل ضرورية في حينها للتحقق من عدم دخول الوباء أو انتشاره عبر المصابين أو المحجورين حينما كانوا مظنة ذلك.
وقد قام الشعب أيضا بدور كبير من خلال التزامه بالإجراءات وصبره عليها.
أما اليوم فيرون أن التحدي الرئيسي الباقي، مع استمرار إغلاق الحدود، هو ضبط التسلل عبر هذه الحدود.
وأما ما عدى ذلك من التدابير الاحترازية فلا يخلو عندهم من تضييق على الناس ومظنة لانجرار مفاسد عنه أكثر مما يرجى منه من جلب لمصالح؛ لذلك فهم لا يرون مسوغا لاستمرار منع التنقل بين الولايات، ولا لإغلاق الأسواق والمحلات، ولا لحظر التجول.
بل إن منهم من يرى أن سلوك نهج التوسعة الآن يساعد الدولة والمواطنين في التقاط أنفاسهم، ويسهل عليهم الرجوع إلى أية إجراءات احترازية، قد تصبح لاحقا ضرورية إذا تم اكتشاف حالات إصابة جديدة، لا قدر الله.
وأبرز رأي لدى منتسبي تيار التوسعة هو مطالبة بعضهم الملحة بعودة البلاد إلى الوضع الطبيعي من حيث إقامة صلاة الجمعة، ولو في نطاقات محددة، بل ومع تطبيق التباعد الاجتماعي وكل ما كان ضروريا؛ لتفادي استمرار التعطيل الحالي الكلي لإقامة الجمعة.
وداخل هذا التيار أيضا من يرون أن على الدولة إدخال كل العالقين على الحدود (خاصة مع السنغال والمغرب) وحجزهم مثلما تم حجز سابقيهم، وأن ذلك حق شرعي لكل مواطن، ولا يرون سببا وجيها لتعطيله، بل يعتبرون دخول العالقين أدعى لنقص ظاهرة التسلل عبر الحدود.
وكذلك من هذا التيار من يرون أن على الدولة أن تسمح برجوع من رغب في ذلك من منتسبي جالياتنا في الخارج، خاصة المرضى والطلاب الذين عُلقت الدراسة في الدول التي يدرسون فيها.
نحو كلمة سواء:
قبل أن أتقدم -من منظور شخصي- بمقترحات آمل فيها التقريب بين وجهات النظر لدى كل من تياري التحوط والتوسعة، يبدو من المهم التذكير بمنطلق هام.
وهو أن الإجراءات الاحترازية المتخذة حتى الآن هي عبارة عن اجتهاد جماعي من لجنة وزارية، أثبتت وعيها التام بالمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقها للخروج بالبلاد والعباد من هذه الأزمة بسلام، وتركت تنفيذ الإجراءات المتخذة بأيدي وزراء ذوي تخصص وتجربة. وهي في موقع الاطلاع التام على كل حراك الوباء عالميا وعلى تعاملات الدول معه، كما أنها في موقع الإدراك التام لما يستلزمه التعاطي مع هذا الوباء العالمي من تدابير صحية واقتصادية واجتماعية، ولما من المصالح يجب جلبه وما من المفاسد يجب درؤه، ثم اجتهدت في ضوء كل ذلك.
ومع ذلك تظل اجتهادات هذه اللجنة شأنا عاما يجوز الاختلاف حول تقييمه، ولا يستغني لترشيده عن نصيحة قادة الرأي في البلاد.
وقد دأبت الحكومة على الاستجابة لنبض الرأي العام وموازنة بعض قراراتها مع توجهاته.
وفي سعينا إلى كلمة سواء، فإننا نقترح موازنة بين الآراء الداعية للتحوط وتلك الداعية للتوسعة كما يلي:
1- الإبقاء على استيراتيجية التباعد الاجتماعي حية في النفوس من خلال جهد إعلامي تحسيسي إضافي، تشارك فيه جميع قوى المجتمع، لحمل المواطنين على ترسيخ البروتوكول الوقائي في عاداتهم اليومية من تلقاء أنفسهم؛ فيرسخ في المجتمع غسل الأيدي بالصابون، وتباعد الأنفاس بترك مسافة متر من الآخر حيثما أمكن، وتفادي العاطسين والساعلين، ويُدعون هم بأنفسهم إلى اتباع السنة باستعمال مرافقهم وأثوابهم عند السعال أو العطاس، مجتنبين بذلك إيذاء مخالطيهم.
فيستعاض بذلك الوعي الصحي المجتمعي عن إغلاق الأسواق والمحلات والمؤسسات التعليمية وتعطيل جزء من النشاط اليومي للأفراد.
أما حظر التجول فيا حبذا لو تم إبقاؤه لفترة أخرى، لكن مع تأخيره إلى الثانية عشر، وليكن الهدف منه تصفيد شياطين الإنس في هذا الشهر الكريم، لزيادة الطاعة في المجتمع وسد الباب دون أية منكرات ليلية محتملة، وذلك من أهم الأسباب الإيمانية في دفع البلاء.
2- بديلا عن منع التنقل بين الولايات، نقترح تبني مقاربة مركزة على كل البلديات الحدودية؛ لأنها خط الدفاع الأول ضد دخول المتسللين، فيُركز الحضور الأمني فيها، ويُرفع مستوى تحسيس المواطنين حول واجبهم الشرعي والوطني في منع دخول أي متسلل. ويُصحب ذلك برقابة الدولة على استمرار تلبية احتياجات المواطنين في تلك البلديات الحدودية في كل ما كانوا يرتبطون فيه بالدول المجاورة، من غذاء ودواء ومرعى ... الخ، وتكفلها بكل النواقص التي تنجر عن الضبط الصارم للحدود.
3- بخصوص إقامة صلاة الجمعة، نقترح كحل تدريجي إقامتها في جوامع محددة، وأولها مسجد الرئاسة، ومساجد الثكنات، وكل جامع تتحقق فيه إمكانية السيطرة على التباعد الاجتماعي بين المصلين، ويُلتزم فيه بالسجادات الخاصة أو بتعقيم الأرضية قبل الصلاة وبعدها، وبمنع تزاحم المصلين دخولا وخروجا.
4- بخصوص المنتظرين على الحدود، والموجودين في الخارج عموما، فإن الحكومة بدأت بالتكفل بأشدهم حاجة كالمرضى، ومطلوب منها الاستمرار في هذا النهج الواعي والمسؤول، والله يوفقهم. وعلى منتسبي تيار التوسعة الانتباه إلى أن قدرات الدولة في الحجز والفحص لا بد أن تكون محدودة بحد ما، وبالتالي فإن فتح الباب على مصراعيه لخيار العودة لن يكون من السهل مواكبته حجزا وفحصا، خاصة في ظل ما بدا من قلة صبر الموريتانيين على أية نواقص في ظروف الحجز أو في تأخير الفحص؛ لذلك فإن توفيج العائدين عبر الحدود وترتيبهم في الأولوية قد يكون هو الحل على الأمد القريب.