يا باغي الخير أقبل , ويا باغي الشر أدبر ، بهذه الروح الإيجابية يستقبل المسلمون مواسم الخير لعرض ما لديهم من بضاعة العمل الصالح مهتبلين فرص التنافس في سوق الطاعات للحصول على أعظم مكسب ألا و هو – بلا شك – رضا الله.
وإننا – إذ نستقبل شهر رمضان بعد وقت قصير – لمطالبون أن نتمثل هذه الروح لتزكية أنفسنا بتحليتها بالفضائل : ( يا باغي الخير أقبل ) وتخليتها عن الرذائل : ( وياباغي الشر أدبر )
أتى رمضان مزرعة العباد
لتطهير القلوب من الفساد
فأدّ حقوقه قولا وفعلا
وزادك فاتخذه للمعاد
فمن زرع الحبوب وما سقاها
تأوّه نادما يوم الحصاد
إنّ بلوغ رمضان يمثل مطمح كل مسلم حريص على التزوّد بطاقة الإيمان التي يعتبر رمضان محطّة من محطّات توليدها العظمى؛ فالسلف – كما قال ابن رجب - كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان, ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبّله منهم .
فكأنّ القوم لفرط شوقهم يجدون عبير رمضان من على بعد, كما وجد يعقوب عليه السلام ريح ابنه : " إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ "
ولأهمّية رمضان كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبشر أصحابه بقدومه ؛ فعن أبي هريرة قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبشر أصحابه "قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك افترض الله عليكم صيامه، يفتح فيه أبواب الجنة ويغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم" أخرجه الإمام أحمد والنسائي , فيا لها من بشارة! فاقبلوا بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يقبلها كثير من حولكم, واحمدوا الله أن هداكم للإيمان واغتنام الفرص التي قد لا تتكرر.
ومن ثم فإنّه حريّ بنا أن نتواصى – وقد أظلنا شهر رمضان – بالقيام ببعض الأمور التي تنفعنا في دنيانا , وترفعنا في آخرتنا, وهي :
1 – الإكثار من الدعاء أن يسلّمنا الله إلى رمضان , وأن يتسلّمه منا متقبّلا ؛ فقد كان من دعائهم – كما قال يحيى بن أبي كثير - اللَّهُمَّ سَلِّمْنِي إلى رَمَضَانَ وَسَلِّمْ لِي رَمَضَان وَتَسَلَّمْهُ مِنّي مُتَقَبَّلاً .
2 – التوبة إلى الله .
جميل أن نتهيأ لموسم التجارة مع الله في هذا الشهر بتوبة نصوح نمحو بها آثار ما جنيناه من آثام, ونعوّض بها خسارة التقصير في جنب الله , ومن مقتضيات هذه التوبة التخلص من مظالم العباد.
3 – التدرّب في هذه الأيام التي تسبقه على أفعال الخير من صيام وصدقة وتلاوة و صلة رحم وغيرها , وتأهيل أنفسنا للأخذ بالعزائم, وترك الترخص لغير داع حتى نأتي رمضان وقد اكتسبنا خبرة فقد علّمنا الإسلام أنّ المهارات تكتسب بالتدرّب عليها ؛ فالعلم بالتعلم , والفهم بالتفهّم , والحلم بالتحلّم , والصبر بالتصبّر .
4 – استشعار عظمة الشهر؛ فالشهر : " شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ " فتعظيم رمضان من تعظيم شعائر الله , وقد قال تعالى : " ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) الحج
وفي رمضان يضعف الداعي إلى المعاصي ؛ لأنّ المعين عليها مفقود، أبواب الجنة مفتحة، وأبواب النار مغلقة، والشياطين مسلسلة وأكثر المسلمين مشغولون بالطاعات , وإذا قوي الداعي وتم الترك عظم الأجر، وإذا ضعف الداعي, وتم الفعل عظم الوزر.
5 – العزم على صيام الشهر والقيام بالطاعات فيه, والبعد عن المعاصي ما ظهر منها وما بطن مخلصين لله رب العالمين في كل ذلك حتى لو حال مانع دون ما عزمنا عليه من طاعات كتب لنا أجر ما عزمنا عليه من خير : " إِنَّ بالمدِينَةِ لَرِجَالًا ما سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلاَ قَطَعْتُمْ وَادِيًا، إلاَّ كَانُوا مَعَكمْ حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ ". وَفي روَايَة: "إلاَّ شَرَكُوكُمْ في الأجْرِ". رواهُ مسلمٌ.
6 – القيام بالصيام على الوجه المطلوب حتى لا يكون حظّنا من صومنا الجوع والعطش : " مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ " رواه البخاري وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ (1)، فَإذَا كَانَ يَومُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ (2) وَلاَ يَصْخَبْ (3) فإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ " رواه البخاري ومسلم
7 - العناية على وجه الخصوص بالصلاة المكتوبة مراعاة لوقتها وقياما بأدائها على الوجه المطلوب, ولنحذر من التساهل في شأنها .
8 – تلاوة القرآن وتدبّره
فالشهر – بحقّ – شهر القرآن تنزّلا وتلاوة وتدبّرا وعملا , ومدارسة جبريل عليه السلام القرأن مع رسولنا صلى الله عليه وسلم تؤكد ذلك وَكَانَ أجْوَدَ مَا يَكُونُ في رَمَضَانَ حِيْنَ يَلْقَاهُ جِبْريلُ، وَكَانَ جِبْريلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ" رواه البخاري ومسلم .
9 – قيام شهر رمضان وقيام ليلة القدر راجين ثواب الله : " مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " رواه البخاري ومسلم , و " مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " متفق عليه
10 – الإكثار من الدعاء .
جاء الحديث عن الدعاء في سياق الحديث عن الصوم , قال تعالى : " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) البقرة
11 – تذكّر الانتصارات الكبرى .
إنّ الأمّة – وهي تمرّ بمرحلة حرجة – تحتاج إلى دفعة من الأمل وشحنة من الرجاء , ومن جوالب ذلك ودواعيه الرجوع إلى تاريخها وما حققته من انتصارات حققت بها ريادة وقيادة البشرية ردحا من الزمن , ولا شك أن شهر رمضان مليء بالذكريات الجميلة في هذا الميدان فبدر والفتح وحطين وعين جالوت , والقسطنطينية , وغيرها أمثلة بارزة في التاريخ.
12 – الإنفاق في سبيل الله ووجوه البرّ تأسيا برسولنا صلّى الله عليه وسلم ؛ فقد كان أجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أجْوَدَ مَا يَكُونُ في رَمَضَانَ حِيْنَ يَلْقَاهُ جِبْريلُ، وَكَانَ جِبْريلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حِيْنَ يَلْقَاهُ جِبرِيلُ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِن الرِّيحِ المُرْسَلَةِ . متفقٌ عَلَيْهِ
13 – تذكّر إخوان لنا كانوا معنا قريبا لم يدركوا هذا الشهر بالدعاء لهم بالمغفرة والرحمة وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ
تلكم – إخوتنا الكرام – بعض الوصايا التي علينا أن نمتثل القيام بها راجين من الله أن يعيننا عليها وأن يتقبل صيامنا وقيامنا وأن يحفظ أمتنا من كيد أعدائها
وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.