القاضي ابن العربي المالكي , الحافظ , المستبحر ’ خاتمة علماء الأندلس , اشتهر بآرائه المثيرة , وبشدته على الموافق والمخالف معا , فهو عالم جمع بين الفقه المشرقي , و الفهم المغربي دقيق في وصفه , وتقويمه اجتمع بالكثير من العلماء في المشرق والمغرب ولشدة نباهته وفطنته يعرف الأبواب الفقهية التي لا يتقنها غير واحد أو اثنين من العلماء , بسبب جمعه بين الثقافة المشرقية , والمغربية تميزت كتبه , وصار يوجد فيها ما لا يوجد في غيرها .
فهو يسلك بك (المسالك ), ليوصلك إلى (الأحكام ), لتقتبس من (قبس ) النبوة , وكلام الأئمة , لتكون بعد ذلك أحوذيا , تستطيع فهم (العارضة ), وكل ذلك من أجل أن تكون مريدا تستضيئ (بسراج المريدين) .
سنرى ونحن في هذا الشهر المبارك , كيف نظر ابن العربي إلى أحكام الصوم , وكيف اختار بعض الأقوال , ورجحها على بعض , وكيف ربط بين الأمور التربوية , والأحكام الشرعية .
ـ المسألة الأولى : من هي الأمة التي فرض عليها الصوم قبلنا
ـ ( قال تعالى : .... كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)
ذكر الله عز وجل في كتابه أنه فرض الصوم على هذه الأمة كما فرضه على من قبلها , واختلف أهل التفسير بالمقصود بهم على ثلاثة أقوال :
ـ قيل هم أهل الكتاب عامة , وهو قول مجاهد , وقد اختاره إمام المفسيرين ابن جرير الطبري حيث قال وأولى الأقوال بالصواب , قول من قال ( فرض عليكم الصيام كمافرض على الذين من قبلكم من أهل الكتاب ) ( ابن جرير 3/412)
ـ القول الثاني : أن المقصود به جميع الناس , وقد قال بهذا القول من السلف , قتادة , واختاره بعض المفسرين (يعني الأنبياء والأمم من لدن آدم عليه السلام، وفيه توكيد للحكم وترغيب في الفعل وتطييب على النفس . ( البيضاوي 1/123) وذلك لأن الفعل الشاق على النفس إذا كان المأمور به يشعر أن غيره قام به يكون ذلك تسلية له , وتوسعة عليه
(يعني هذه العبادة كانت مكتوبة واجبة على الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم، ما أخلى الله أمة من إيجابها عليهم لا يفرضها عليكم وحدكم وفائدة هذا الكلام أن الصوم عبادة شاقة، والشيء الشاق إذا عم سهل تحمله.( الرازي 5/239 )
ـ القول الثالث أنهم النصارى فقط , وقد قال بهذا القول من السلف الشعبي , والربيع , وأسباط ( الماوردي 1 / 236)
نرى الإمام ابن العربي ذكر الأقوال التي ذكرها أهل التفسير قبله , ثم ضرب ببعضها الحائط , ورجح مايرى ترجيحه معللا ذلك الترجيح وموضحا لسببه .
فهو يرى بأن القول القائل بأن المقصود بالآية جميع الناس قول ساقط لا يلتفت إليه , لأن الناس كان صومها الصمت عن الكلام , وليس هو المقصود هنا , وإنما التشبيه في الآية راجع إلى صوم النصارى قال في الأحكام
(فيه ثلاثة أقوال: قيل: هم أهل الكتاب وقيل: هم النصارى. وقيل: هم جميع الناس.
وهذا القول الأخير ساقط؛ لأنه قد كان الصوم على من قبلنا بإمساك اللسان عن الكلام، ولم يكن في شرعنا؛ فصار ظاهر القول راجعا إلى النصارى لأمرين: أحدهما: أنهم الأدنون إلينا.
الثاني: أن الصوم في صدر الإسلام كان إذا نام الرجل لم يفطر، وهو الأشبه بصومهم.( الأحكام 1/106 )
المسألة الثانية : مسافة السفر التي تجيز الفطر للصائم
نافشها ابن العربي في الأحكام , و ذ كر أنها لم يرد فيها نص شرعي صريح يمكنه أن يرفع الخلاف فيها , وأن الصحابة رضوان الله عليهم فهموا السفر من اللفظ , وذلك بسليقتهم العربية , والذي جاء في النصوص هو التنبيه على مسافة السفر وذلك في سياق يتعلق بالمرأة وهو قوله صلى الله عليه وسلم ( لا يحل لا مرأة تومن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذومحرم , وفي رواية ثلاثة أيام .
وبسبب هذا الحديث جاءت الرواية عن مالك , والشافعي أن المسافة التي تبيح القصر , والفطر هي يوم وليلة , وقال الإمام الأعظم هي ثلاثة أيام .
وأما تحديده بستة والثلاثين , أو ثمانية وثلاثين , أو أربعين فهي ظنون لا تثبت بدليل (ثم التحديد بستة وثلاثين ميلا، أو ثمانية وأربعين ميلا مراحل لا تدرك بتحقيق أبدا، وإنما هي ظنون ) (الأحكام 1/112)
والصوم قد ثبت في الذمة بيقين , فلا يجوز تركه إلا بيقين , ولذلك المعول عليه في السفر هو المبيت (والعمدة فيه أن العبادة تثبت في الذمية بيقين، فلا براءة لها إلا بيقين مسقط؛ وقدر السفر مشكوك فيه حتى يكون سفرا ظاهرا، فيسقط الأصل .( الأحكام 1/111)
هذا مقتضى ماذ كره ابن العربي في الأحكام , وحين أراد أن يناقش هذه المسألة في القبس , نظر إليها من زاوية أخرى حيث أثبت أن المسافة أربعة برد , وأن مالكا أخذ باليوم والليلة التي جاءت في الحديث لأنها هي الرواية الوسط بين الرويات لكنه لما نظر في الحديث , ووجده غير متفق عليه , عدل عنه إلى فعل ابن عمر رضي الله عنه , وهو أنه كان يقصر الصلاة إذا ذهب إلى ريم , وهي أربعة برد , وابن عمر كان معروفا بحرصه على الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم .
(ولكنه لمّا لم يجد هذا الحديث متفقًا عليه (وروي يومًا وليلة وروي مرة ثلاثة أيام) لجأ إلى عبد الله بن
عمر فعوَّل على فعله فإنه كان يقصر الصلاة إذا خرج إلى ريم ، وهي أربعة برد ، لأن ابن عمر كان كثير الاقتداء بالنبي، - صلى الله عليه وسلم -، وتركب على هذا أنه روي عنه في الكتب المشهورة أنه يقصر في ستة وثلاثين ميلًا وهي تقرب من يومٍ وليلة لأنه لم يرد بقوله مسيرة يوم وليلة أن يسير النهار كله والليل كله إنما أراد أن يسير سيرًا يبيت فيه عن أهله ولا يمكنه الرجوع إليهم . ( القبس 1/331)
ـ المسألة الرابعة : ثبوت الشهر برؤية العدل الواحد
مسألة ثبوت الشهر برؤية العدل الواحد من المسائل الفقهية التي اختلف فيها العلماء قديما , حيث رأى بعضهم أن الإخبار بالشهر هو من باب الأخبار كدخول وقت الصلاة وعليه يثبت برؤية العدل الواحد ورأى بعضهم أنه من باب الشهادة , وعليه لايثبت إلا برؤية العدلين , ورأى بعضهم أن أوله من باب الأخبار , وآخره من باب الشهادة .
والذي جرى به العمل عند المالكية , وهو المعتمد في كتبهم أنه من باب الشهادة , وعليه لايثبت إلا بعدلين سواء في أوله أو آخره .
ومع أن ابن العربي مالكي المذهب , وتارة يكون شديدا على مخالفه , إلا أنه في هذه المسألة رد مذهب المالكية ولم يقبله ورد كل التعليلات التي يذكرها المالكية , في رد الأحاديث الثابتة في إثبات الشهر برؤية العدل الواحد , وذكر أن الصحيح هو ثبوته برؤية العدل الواحد , ولزوم العمل به ( روي عن ابن عباس قال: «جاء أعرابي إلى رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - فقال: أبصرت الهلال الليلة، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله؟ قال: نعم. قال: يا بلال؛ أذن في الناس فليصوموا غدا». خرجه النسائي والترمذي وأبو داود.
وقال أبو داود: قال ابن عمر - رضي الله عنه -: «أخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني رأيت الهلال، فصام وأمر الناس بالصيام»،
واعترض بعضهم على خبر ابن عباس أنه روي مرسلا تارة وتارة مسندا؛ وهذا مما لا يقدح عندنا في الإخبار، وبه قال النظام؛ لأن الراوي يسنده تارة ويرسله تارة أخرى، ويسنده رجل ويرسله آخر.
وقيل: يحتمل حديث ابن عمر أن يكون رآه غيره قبله، وهذا تحكم وزيادة على السبب، ولو كان هذا جائزا لبطل كل خبر بتقدير الزيادة فيه.
فإن قيل: نؤيده بالأدلة، قلنا: لا دليل، إنما الصحيح فيه قبول الخبر من العدل ولزوم العمل به.( الأحكام 1/ 119 )
ـ المسألة الخامسة : القبلة , والمباشرة , للصائم
مسألة القبلة والمباشرة للصائم ناقشها المالكية في كتبهم , والصحيح عندهم فيها أنها راجعة لحال الصائم فالصائم الذي يعلم من نفسه عدم سلامته من اللذة الصغرى ( المذي ) أو الكبرى (المني ) أنها تحرم في حقه , ولذلك قال خليل في المختصر ( ومقدمة جماع كقبلة وفكر إن علمت السلامة , وإلا حرمت ) والذي يعلم السلامة تكون مكروهة في حقه .
إلا ان ابن العربي بعد أن ذكر قول التفصيل عند المالكية , ذكر أن كثيرا منهم يتجاوز حد الفتيا في المسألة , ولايأتي بتفصيل منضبط , وصحح هو أنها لوأدت إلى المذي فلاشيء فيها , ولو أدت إلى المني حرمت ( فنقول: أما إن أفضى التقبيل والمباشرة إلى المذي فلا شيء فيه؛ لأن تأثيره في الطهارة الصغرى، وأما إن خيف إفضاؤه إلى المني فذلك الممنوع، والله أعلم.( الأحكام 1/134 )
هذا ماقاله في الأحكام ويفهم من كلامه في العارضة مطالبته بالقبلة للصائم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعلها ( ولو كان الذي يمص ريق الحبيب لما كان له في الفطر من نصيب كان النبي صلى الله عليه وسلم يمص لسان عائشة وهو صائم , فليفعل ذلك أحدكم بمن يحب إن شاء الله ) ( عارضة الأحوذي 3 / 195 )
...... يتواصل