ثانيا: التشبيه عند بعض الفرق الإسلامية ، كانت الجزيرة العربية قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بديانات كثيرة موضوعة أو ممسوخة، وكانت الوثنية هي الغالبة لاسيما على قريش حيث عبدوا الأصنام وامتلأت منازلهم بها.
ولما بعث النبي صلى الله عليه سلم تعجب بعض كفار قريش من دعوته إياهم لعبادة إله واحد وهم الذين اعتادوا على عبادة آلهة كثيرة فقال تعالى حاكيا عنهم :(أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) فهم يتعجبون أن النبي صلى الله عليه وسلم "جعل المعبودات كلها واحدا، يسمع دعاءنا جميعنا، ويعلم عبادة كل عابد عبدَه منا (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) : أي إن هذا لشيء عجيب." ،ووصفه سبحانه لأصنامهم بالآلهة "على المجاز كقوله: (فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ)، وقوله: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا)، فهو على المجاز، على ما عندهم، إما بحق التسمية لها أنها آلهة، وإما بصرف العبادة إليها"
وكما أشرنا سابقا فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى التوحيد والتنزيه وبذلك اختفى التشبيه في صدر الإسلام، ولكن التشبيه سرعان ما تسرب إلى الأمة الإسلامية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؟
ومن ذلك ما ذكره الأشعري في مقالات الاسلاميين حين قال:" واختلفت الروافض أصحاب الإمامة في التجسيم وهم ست فرق: فالفرقة الأولى الهشامية أصحاب هشام بن الحكم الرافضي يزعمون أن معبودهم جسم وله نهاية وحد طويل "
ومن المشبهين من الشيعة " أصحاب هشام بن سالم الجواليقي يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان وينكرون أن يكون لحماً ودماً ويقولون هو نور ساطع يتلألأ بياضاً وأنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان "
ومن فرق الخوارج من أحدثت التشبيه كالشيبانية الذين شبهوا "الله بخلقه" "
ومن أهل الحديث من وقع في فخ التشبيه ويسمون بالحشوية وانتسب بعض هؤلاء للإمام أحمد والحقيقة التي لا مراء فيها أن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله لم يكن حشويا وهو وإن كان يجعل المرجع الأخير في أمر الحكم الشرعي -عقائديا كان أو علميا- النص الصحيح ، فإنه لم يكن حرفيا قط في فهمه"
لذا يرى بعض الباحثين ضرورة "الفصل بين كثير من الحنابلة وإمامهم أحمد بن حنبل رضي الله عنه ..لاسيما الاتجاه الذي زاد نزوعه نحو حرفية النص وبالغ في التزام الظواهر المباشرة لها، بعيدا عن أي دور للعقل في العقيدة فأثبت لله الجهة والمكان ،وتشدد في مسألة الجهة والأينية"
وهذا الاتجاه ومن وافقه من غير الحنابلة هم من يطلق عليهم لقب "الحشوية" في كتب الفكر الإسلامي، وذهب الحشوية إلى أن طريق معرفة الحق التقليد، وأن ذلك هو الواجب وأن النظر والبحث حرام. ولذلك وصفهم حجة الإسلام الغزالي "بضعف العقول وقلة البصائر.
ووصفهم الأشعري قبله بأنهم:"جعلوا الجهل رأس مالهم، وثقل عليهم النظر والبحث عن الدين، ومـالو إلى التخفيف والتقليد وطعنوا على من فتش عن أصول الدين ونسبوه إلى الضلال" .
وتذكر كتب الفرق أسماء لبعض من اتهموا بالحشوية ومنهم:مضر بن محمد والحافظ أو عاصم خشيش بن الأصرم وأبو عبد الله محمد بن كرام وعبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل وله كتاب "السنة" ملأه بالأخبار والأحاديث الموضوعة التي تؤسس لعقيدة التشبيه والتجسيم".
ومن العلماء الكبار الذين شوشوا على عقيدة التوحيد والتنزيه واتهموا بالوقوع في التشبيه ابن تيمية رحمه الله، حيث جمع في أقواله بين التنزيه والتشبيه وحير العلماء والمناظرين ولأننا لا نخالفه في ماورد في كتبه من عبارات وجمل تفيد التنزيه، فإننا نكتفي هنا ببعض ما وقع فيه من التشبيه، فعند حديثه مثلا عن حديث الصورة يقول: "لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير عائد إلى الله فإنه مستفيض من طرق متعددة عن عدد من الصحابة وسياق الأحاديث كلها يدل على ذلك وهو أيضاً مذكور فيما عند أهل الكتابين من الكتب كالتوراة وغيرها"
فهو يستشهد بالكتب المحرفة في إثبات الصورة والشبه ويقول: "فهذا المعنى عند أهل الكتاب من الكتب المأثورة عن الأنبياء كالتوراة فإن في السفر الأول منها سنخلق بشراً على صورتنا يشبهها "
فماذا تريدون بعد استشهاده بما زعم أنه ورد من قوله "يشبهها" فأي تشبيه أكثر صراحة من ذلك
ومن غرائب ابن تيمية استشاهده في إثبات الجهة والمكان بأقوال شعراء الجاهلية الجاهلية، كقول أمية بن أبي الصَّلْت:
مجدوا الله فهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيرًا
بالبناء الأعلى الذي سبق النا ... س وسوى فوق السماء سريرا"
وفي مكان آخر نجده يستشهد بالإنجيل "أن المسيح ـ عليه السلام ـ قال: " لا تحلفوا بالسماء فإنها كرسي الله. وقال للحواريين: إن أنتم غفرتم للناس فإن أباكم ـ الذي في السماء ـ يغفر لكم كلكم، انظروا إلى طير السماء، فإنهن لا يزرعن، ولا يحصدن، ولا يجمعن في الأهواء، وأبوكم الذي في السماء هو الذي يرزقهم، أفلستم أفضل منهن؟ " ومثل هذا من الشواهد كثير يطول به الكتاب."
ولايرى ابن تيمية مانعا من الإشارة "الحسية إليه بالأصبع، ونحوها"وقيل إن ابن تيمية، وأورد الإمام ابن حجر العسقلاني في كتابه الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة أن ابن تيمية "ذكر حديث النزول فنزل عن المنبر درجتين فقال كنزولي هذا فنسب إلى التجسيم"
وقد حاول ابن تيمية أن يؤكد عقيدة الشاب الأمر ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه "في صورة شاب دونه ستر وقدميه في خضرة (..)أنها رؤية عين" .
وكذلك تلميذ ابن تيمية ابن القيم رحمه الله، فهو أيضا كان يكثر من رواية الآثار التي فيها إثبات المكان والجهة لله، فهو مثلا يستدل على إثبات المكان بقصة حمر الوحش والتي "انتهت إلى الماء لترده فوجدت الناس حوله فتأخرت عنه فلما جهدها العطش رفعت رأسها إلى السماء وجأرت إلى الله سبحانه بصوت واحد فأرسل الله سبحانه عليها السماء بالمطر حتى شربت وانصرفت". ويروي عن الهروي بإسناده عن عبد الله بن وهب قال: "أكرموا البقر فإنها لم ترفع رأسها إلى السماء منذ عبد العجل حياء من الله عز وجل"
أما في عصرنا فيمكن القول بأمانة علمية أنه كما أساء سلف السلفية المعاصرة لمذهب الإمام أحمد وألفوا التصانيف التي شانوا بها المذهب"حسب رأي ابن الجوزي رحمه الله؛ أن الخلف كان وفيا لذلك النهج .
وسأجرد هنا بأمانة علمية بعض أقول أئمتهم وعلمائهم وباحثيهم وأترك للقارئ الكريم الحكم عليها :
فالشيخ ابن اعثيمين رحمه الله يقول : "فأما تفسير استواء الله تعالى على عرشه باستقراره عليه فهو مشهور عن السلف، نقله ابن القيم في النونية وغيره. وأما الجلوس والقعود فقد ذكره بعضهم، لكن في نفسي منه شيء"
ويقول ابن اعثيمين أيضا: "إن كان يلزم من رؤية الله تعالى أن يكون جسماً فليكن ذلك"
ويقول ابن باز في مجموع الفتاوى معترضا على بعض عبارات التنزيه عند أحد علمائهم وهو الصابوني رحمه الله؛ يقول ابن باز:"ثم ذكر الصابوني - هداه الله – "تنزيه الله سبحانه عن الجسم والحدقة والصماخ واللسان والحنجرة، وهذا ليس بمذهب أهل السنة"
وألف الأستاذ حمود بن عبد الله بن حمود التويجري كتابا سماه : عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن، طبع في دار اللواء بالمملكة العربية السعودية سنة 1409ه- 1989م.
وقد اضطره تعصبه لإثبات أن الله على صورة آدم أي هيأته البشرية لرد قول ورد في أصل من أصول عقيدتهم وهو كتاب التوحيد لابن خزيمة : حيث قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله : "توهم بعض من لم يتحر العلم أن قوله: «على صورته» يريد صورة الرحمن عز ربنا وجل عن أن يكون هذا معنى الخبر، بل معنى قوله: «خلق آدم على صورته» ، الهاء في هذا الموضع كناية عن اسم المضروب، والمشتوم، أراد صلى الله عليه وسلم أن الله خلق آدم على صورة هذا المضروب، الذي أمر الضارب باجتناب وجهه بالضرب، والذي قبح وجهه، فزجر صلى الله عليه وسلم أن يقول: «ووجه من أشبه وجهك» ، لأن وجه آدم شبيه وجوه بنيه، فإذا قال الشاتم لبعض بني آدم: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، كان مقبحا وجه آدم صلوات الله] عليه وسلامه، الذي وجوه بنيه شبيهة بوجه أبيهم، فتفهموا رحمكم الله معنى الخبر، لا تغلطوا ولا تغالطوا فتضلوا عن سواء السبيل، وتحملوا على القول بالتشبيه الذي هو ضلال"
قال التويجري معلقا على كلام ابن خزيمة رحمه الله: "وهو معدود من زلاته لأنه قد ذهب إلى قول الجهمية".
ومن المعاصرين ألف الأستاذ السلفي "محمد موسى نصر " كتابا عنونه ب:صفة الساق لله تعالى وقد طبع هذا الكتاب في مكتبة الغرباء الأثرية بالمملكة العربية السعودية سنة 1413ه-1992م.
وقد رد في مقدمته على بعض علماء السلفية المعاصرة بأسلوب حاد نتيجة لقولهم باضطراب رواية :(يكشف ربنا عن ساقه) فقال: "وكان من أكثر هؤلاء تخبطا ومجانبة للحق وعلوا بالباطل محمد الغزالي في كتابه السنة النبوية، ثم يليه الصابوني محمد علي وغيرهما حتى ظن بعض المبتدئين في الطلب أن التفسير المنسوب لابن عباس بتأويل الآية بالهول والشدة محل إجماع أهل العلم
ومن المعاصرين علوي بن عبد القادر السقاف الذي يرى أن" الصُّورةَ صفةٌ من صفات الله عَزَّ وجَلَّ الذاتية كسائر الصفات الثابتة ويصف الله ب :الكيد، والمكر، والاستهزاء، والخداع، والنسيان- تعالى الله عن ذلك - ولاتخفى عليك جرأة الرجل وهو يتحدث عن صفة "الملل" ويحاول أن يجد لنفسه مخرجا من القاعدة العامة التي بنى عليها ما أسماها بالصفات"
ومن المعاصرين أبو ذر القلموني، صاحب كتاب ماذا تعرف عن الله؟ الذي حققه عبد المنعم بن حسين بن حنفي بن حسن بن الشاهد، وطبعته مكتبة الصفا،سنة: 1430هـ - 2009م.وقد أثبت فيه مجموعة من الصفات كالأصابع ونحوها...إلخ
ولك أن تتصور خطورة أن يرشد شيخ - بحجم الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه- الناس إلى مجموعة من الكتب باعتبارها مصادر للعقيدة ، ويجعل على رأس القائمة كتاب السنة لعبد الله بن أحمد دون أن يبين ما في هذه المصادر وما في هذا الكتاب تحديدا من خطر، ومن آثار موضوعة ودون أن يحترز .
يقول الشيخ ابن باز رحمه الله : ومن أراد الوقوف على كثير من ذلك فليراجع ما كتبه علماء السنة في هذا الباب مثل كتاب (السنة) لعبد الله بن الإمام أحمد , و (التوحيد) للإمام الجليل محمد بن خزيمة , وكتاب (السنة) لأبي القاسم اللالكائي الطبري , ..."
وسنتوقف في هذا الملخص مع كتاب السنة لعبد الله بن أحمد وهو الذي بدأ به بن باز: وسنجد أن الله سبحانه وتعالى عما يصفون :له ذراعين وصدر، وبعض ويجلس على العرش وله قدمين وينتعل ونحو ذلك مما تقشعر له الأبدان ولا يمت إلى تنزيه الله تعالى بصلة، ففي هذا الكتاب : «خلق الله عز وجل الملائكة من نور الذراعين والصدر»وحتى يتأكد التشبيه في هذا القول روى في موضع آخر: «ليس شيء أكثر من الملائكة، إن الله عز وجل خلق الملائكة من نور» فذكره وأشار سريج بن يونس بيده إلى صدره، قال: وأشار أبو خالد إلى صدره.
ويجب أن نضع خطا عريضا تحت قوله"وأشار سريج" وقوله:"وأشار أبو خالد إلى صدره" فهل بقي بعد هذا شك في تشبيه القوم؟!.
وفي وموضع آخر من نفس الكتاب :«إن الله عز وجل إذا أراد أن يخوف عباده أبدى عن بعضه إلى الأرض، فعند ذلك تزلزل » وفي موضع آخر من نفس الكتاب :«إذا جلس تبارك وتعالى على الكرسي سمع له أطيط كأطيط الرحل الجديد» وفي الكتاب أيضا «حتى يضع بعضه عليه» .وفيه «إن العرش لمطوق بحية » وفيه «إن السماوات السبع، والبحار لفي الهيكل وأن الهيكل لفي الكرسي، وإن قدميه لعلى الكرسي، وهو يحمل الكرسي، وقد عاد الكرسي كالنعل في قدميه» وفي الكتاب أيضا تشبيه صريح أيضا فقد ورد فيه:« قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام بما شبهت صوت ربك عز وجل حين كلمك من هذا الخلق؟ قال: شبهت صوته بصوت الرعد حين لا يترجع ».
وخلاصة القول: أنه لا يمكن لأي عاقل عالما كان أو جاهلا أن يطالع ما في كتب القوم من تشبيه وتجسيم معتقدا صحته إلا وعلقت بذهنه صورة عن الإله الجالس على عرش في السماء ووجه أمر ونحو ذلك، تعالى ربنا عن ذلك علوا كبيرا.
.........يتبع