التنويه بعقيدة التنزيه (6) / د.إسلم ولد الطالب أعبيدي

(الرد على أهل التشبيه) .. خلاصة ما ذهب إليه سلف المشبهين وخلفهم - وإن اختلفوا في أسلوب تقرير تلك العقائد – أن لله سبحانه وتعالى صورة أو كصورة آدم وأن له جسما مركبا وله وجه كالشاب الأمرد .. وأن له مكان هو السماء وهو مستقر على عرشه ويجلس وينتعل ويتحرك من مكان إلى مكان...إلخ تعال الله عما يقولون علوا كبيرا؟

وقد لاحظت أن تعصب القوم لإثبات المكان والجهة أي جهة "فوق" واستنادهم في ذلك على ظواهر بعض النصوص ورفضهم للتأويل والمجاز أدى بهم للانحراف عن عقيدة جمهور المسلمين على اختلاف فرقهم وهي التنزيه المطلق لله سبحانه أن يحويه مكان أو يجري عليه زمان أو يشار إليه بالنان، مع اعتقاد أنه سبحانه هو العلي العظيم وأنه "استوى على العرش "كما أخبر لا كاستواء البشر.

من هنا سأتعرض أولا لتنزيه الله عن المكان وذلك يتضمن حتما تنزيهه عن الجسم ونحو ذلك فالجسم هو المركب المتمكن والمتحيز في الجهات، وثانيا سأتعرض لمسألة المجاز في القرآن.

وذلك قبل أن أستعرض عقيدة جمهور المسلمين على اختلاف فرقهم وجمهور أهل السنة والجماعة أيضا، ليكون التنويه بعقيدة التزيه ماحقا لكل شبهة علقت بأذهان الموحدين، والله أسأل أن يرزقنا الإخلاص ويجنبنا الزلل.

وأبدأ بالسؤال عن مفهوم المكان؟

قال الراغب: المكان عند أهل اللغة: الموضع الحاوي، للشيء، وعند بعض المتكلمين أنه عرض، وهو اجتماع جسمين حاو ومحوي، وذلك أن يكون سطح الجسم الحاوي محيطا بالمحوي، فالمكان عندهم هو المناسبة بين هذين الجسمين." والمكان: عند الحكماء، هو السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي، وعند المتكلمين: هو الفراغ المتوهم الذي يشغله الجسم وتنفذ فيه أبعاده.

ويعد إثبات المكان من الأسس التي قامت عليها عقيدة التجسيم والتشبيه، لأن ما يحتاج إلى مكان ليحل فيه لابد وأن يكون جسما، لذا كان لابد من تفنيد هذه الشبه، وتفنيدها يتضمن بالضرورة تفنيد القول بالتجسيم والتشبيه.

وأبدأ بما يحتج علينا به اخوتنا في القبلة والدين من مدعي الإثبات في إثباتهم للمكان من نصوص: كحديث الجارية المشهور لكثرة ما استدلوا به، وقد ورد هذا الحديث في موطأ مالك عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ ؛ أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولاَللهِ، إِنَّ جَارِيَةً لِي كَانَتْ تَرْعَى غَنَماً لِي. فَجِئْتُهَا وَقَدْ فَقَدَتْ شَاةً مِنَ الْغَنَمِ. فَسَأَلْتُهَا عَنْهَا، فَقَالَتْ: أَكَلَهَا الذِّئْبُ. فَأَسِفْتُ عَلَيْهَا، وَكُنْتُ مِنْ بَنِي آدَمَ فَلَطَمْتُ وَجْهَهَا. وَعَلَيَّ رَقَبَةٌ. أَفَأُعْتِقُهَا؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيْنَ اللهُ؟».فَقَالَتْ: فِي السَّمَاءِ.فَقَالَ: «مَنْ أَنَا؟»فَقَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَعْتِقْهَا».

وفي هذا الحديث اضطراب كثير حيث ورد بعدة ألفاظ ففي صحيح مسلم  برواية (قالت في السماء ) وفي سنن أبي داوود بالروايتين، أي رواية:( قالت) ورواية (أشارت إلى السماء) وفي مسند الإمام أحمد (قالت) ورواية أشارت عن أبي هريرة: أن رجلاً أتى النبي - صلي الله عليه وسلم - بجارية سوداء أعجمية، فقال: يا رسول الله؛ إن علي عتق رقبة مؤمنة، فقال لها رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "أين الله؟ "، فأشارت إلى السماء بإصبعها السبابة، فقال لها: "مَنْ أنا؟ "، فأشارت بإصبعها إلى رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وإلى السماء، أي: أنت رسول الله، فقال: "أعتقها".

وقولها :(أشارت ) في الروايات التي وصفت الجارية بأنها أعجمية أو خرساء، وهناك رواية في مسند الإمام أحمد قال:"حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة،عن الشريد: أن أمه أوصت أن يعتق عنها رقبة مؤمنة، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: عندي جارية سوداء أو نوبية  ، فأعتقها؟ فقال: " ائت بها " فدعوتها، فجاءت، فقال لها: " من ربك؟ " قالت: الله. قال: " من أنا؟ " فقالت: أنت رسول الله، قال: " أعتقها، فإنها مؤمنة "

وفي رواية الطبراني: «أَتَشْهَدِينَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟» ، قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: «أَتَشْهَدِينَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟» قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: «أَعْتِقْهَا، فَإِنَّهَا تُجْزِئُ»

والروايتان الأخيرتان متطابقتان مع ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته كلها،فكان صلى الله عليه وسلم يدعوا الناس أن يشهدوا ألا إله إلا الله وأنه رسول الله، وهذا مما علم من الدين بالضرورة ولاينازع فيه إلا جاهل، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لمن أراد أن يختبر إيمانه "أين الله"؟

فلماذا نتمسك بهذا الحديث ورغم اختلاف ألفاظه ونتخلى عن بقية النصوص والآحاديث المتواترة قطعية الدلالة والورود.

 ولو افترضنا عدم وجود هذا الاختلاف البين في ألفاظ الحديث فإننا نقول بأنه ليس حجة على إثبات المكان ونقول لهم كما قال الإمام النووي رحمه الله هذا من أحاديث الصفات وفيها مذهبان :"أحدهما الإيمان به من غير خوض في معناه مع اعتقاد أن الله تعالى ليس كمثله شيء وتنزيهه عن سمات المخلوقات والثاني تأويله بما يليق به فمن قال بهذا قال كان المراد امتحانها هل هي موحدة تقر بأن الخالق المدبر الفعال هو الله وحده وهو الذي إذا دعاه الداعي استقبل السماء كما إذا صلى المصلي استقبل الكعبة وليس ذلك لأنه منحصر في السماء كما أنه ليس منحصرا في جهة الكعبة بل ذلك لأن السماء قبلة الداعين كما أن الكعبة قبلة المصلين "

وبذلك قال  الإمام السندي في حاشيته، وقال أبو منصور البغدادي: واجمعوا على أنه لا يحويه مكان ولا يجرى عليه زمان خلاف قول من زعم من الشهامية والكرامية انه مماس لعرشه وقد قال امير المؤمنين على رضي الله عنه ان الله تعالى خلق العرش اظهارا لقدرته لا مكانا لذاته وقال ايضا قد كان ولا مكان وهو الآن على ما كان".

ومن النصوص التي يستدل بها من تعصبوا لعقيدة المكان ؛ هذه الآية (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ )  .وهم بذلك يخالفون الجمهور أيضا  حيث قال ابن عباس :أأمنتم عذاب من في السماء إن عصيتموه. وقيل: تقديره أأمنتم من في السماء قدرته وسلطانه وعرشه" ،قال القرطبي. قلت: ويحتمل أن يكون المعنى: أأمنتم خالق من في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون."

ويقول الإمام الماتريدي : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) أي: أأمنتم من في السماء ملكه وسلطانه، ولم تروا أحدا انتهى ملكه إلى السماء، فكيف تأمنون ممن بلغ ملكه السماء؛ "

وفي تفسير الثعالبي:" إنّما قال: مَنْ فِي السَّماءِ لأنّهم كانوا يعترفون بأنّه إله السماء، ويزعمون  أنّ الأصنام آلهة الأرض، وكانوا يدعون الله من جهة السماء، وينتظرون نزول أمره بالرحمة والسطوة منها.

وأغلب تفاسير القرآن اتجهت في تفسير الآية هذا الاتجاه وقد أورد القرطبي رحمه الله كلاما نفيسا لو اكتفيت به لكفاني حيث قال رحمه الله: والأخبار في هذا الباب كثيرة صحيحة منتشرة، مشيرة إلى العلو، لا يدفعها إلا ملحد أو جاهل معاند. والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت. ووصفه بالعلو والعظمة لا بالأماكن والجهات والحدود لأنها صفات الأجسام. وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء لأن السماء مهبط الوحي، ومنزل القطر، ومحل القدس، ومعدن المطهرين من الملائكة، وإليها ترفع أعمال العباد، وفوقها عرشه وجنته، كما جعل الله الكعبة قبلة للدعاء والصلاة، ولأنه خلق الأمكنة وهو غير محتاج إليها، وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان. ولا مكان له ولا زمان. وهو الآن على ما عليه كان."

وقال الإمام أبوحيان الأندلسي: "هذا مجاز، وقد قام البرهان العقلي على أنه تعالى ليس بمتحيز في جهة، "

              وعقيدة المكان هي التي أغضبت الإمام مالك رضي الله عنه فقال للسائل: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأراك رجل سوء! أخرجوه. وقال بعضهم: نقرؤها ونفسرها على ما يحتمله ظاهر اللغة. وهذا قول المشبهة.

وقد صح لنا عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء»،

قال البيهقي:"يدل على أنه لم يكن شيء غيره لا الماء ولا العرش ولا غيرهما، فجميع ذلك غير الله تعالى. وقوله: «كان عرشه على الماء» . يعني: ثم خلق الماء وخلق العرش على الماء، ثم كتب في الذكر كل شيء

وقال ابن حجر: "وفيه دلالة على أنه لم يكن شيء غيره لا الماء ولا العرش ولا غيرهما لأن كل ذلك غير الله تعالى".قال البيهقي: "واستدل بعض أصحابنا في نفي المكان عنه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت الظاهر فليس فوقك شيء» . وأنت الباطن فليس دونك شيء ". وإذا لم يكن فوقه شيء ولا دونه شيء لم يكن في مكان وفي سورة الإخلاص دلالة واضحة على تنزيه الله عن المكان كما قال الإمام الرازي "اعلم أنه كما أن الكفار لما سألوا الرسول صلى البه عليه وسلم عن صفة ربه فأجاب الله بهذه السورة الدالة على كونه تعالى منزها عن أن يكون جسما أو جوهرا أو مختصا بالمكان فكذلك فرعون سأل موسى عليه السلام عن صفة الله تعالى فقال : ( وما رب العالمين ) ثم إن موسى لم يذكر الجواب عن هذا السؤال إلا بكونه تعالى خالقا للناس ومدبرا لهم وخالق السماوات والأرض ومدبرا لهما وهذا أيضا من أقوى الدلائل على أنه تعالى ليس بمتحيز ولا في جهة لأنا سنبين إن شاء الله تعالى أن كون الشيء حجما ومتحيزا عين الذات ونفسها وحقيقتها لا أنه صفة قائمة بالذات وأما كونه خالقا للأشياء ومدبرا لها فهو صفة ولفظه "ما" سؤال عن الماهية وطلب للحقيقة فلو كان تعالى متحيزا لكان الجواب عن قوله : ( وما رب العالمين )  بذكر كونه متحيزا أولى من الجواب منه بذكر كونه خالقا ولو كان كذلك كان جواب موسى عليه السلام خطأ .

..............يتبع

29. أبريل 2020 - 18:26

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا