القاضي ابن العربي المالكي , الحافظ , المستبحر ’ خاتمة علماء الأندلس , اشتهر بآرائه المثيرة , وبشدته على الموافق والمخالف معا , فهو عالم جمع بين الفقه المشرقي , و الفهم المغربي دقيق في وصفه , وتقويمه اجتمع بالكثير من العلماء في المشرق والمغرب ولشدة نباهته وفطنته يعرف الأبواب الفقهية التي لا يتقنها غير واحد أو اثنين من العلماء , بسبب جمعه بين الثقافة المشرقية , والمغربية تميزت كتبه , وصار يوجد فيها ما لا يوجد في غيرها .
فهو يسلك بك (المسالك ), ليوصلك إلى (الأحكام ), لتقتبس من (قبس ) النبوة , وكلام الأئمة , لتكون بعد ذلك أحوذيا , تستطيع فهم (العارضة ), وكل ذلك من أجل أن تكون مريدا تستضيئ (بسراج المريدين) .
سنرى ونحن في هذا الشهر المبارك , كيف نظر ابن العربي إلى أحكام الصوم , وكيف اختار بعض الأقوال , ورجحها على بعض , وكيف ربط بين الأمور التربوية , والأحكام الشرعية .
المسألة الخامسة : مسألة إثبات الشهر بالرؤية الفلكية
استخدام علم النجوم في معرفة ثبوت الشهر من المسائل التي ناقشها العلماء قديما , وهم مجمعون على أن المعتبر في إثبات الشهر هو الرؤية البصرية , أو إكمال الشهر ثلاثين ليلة .
وتوجد أقوال هنا وهناك تقول باستعمال حساب النجوم في إثبات شهر رمضان , وهي أقوال أغلبها بني على أصول ضعيفة , أو روي عن أئمة لم يثبت عنهم القول بذلك .
ومن تلك الأقوال ماحكي عن ابن سريج الشافعي , حيث فهم قوله صلى الله عليه وسلم فاقدروا له ( أي قدروا له منا زل القمر )وهذا خاص بمن يعرف تلك المنازل , أما من يجهلها فيتعلق بقوله صلى الله عليه وسلم (فأكملوا العدة )
وبهذا القول اهتم ابن عبد العربي في العارضة , والمسالك , وأظهر بطلانه , وشدد النكير على ابن سريج في القول به (قال أبو العباس بن سريج -رئيس مذهب الشافعي ومحيي رسم مذهبه-: هذا خطاب لمن خص الله بهذا الكلام ، وقوله: "فأكملوا العدة" خطاب للعامة.
قال ابن العربي : وهذه هفوة لا مرد لها، وعثرة لا إقالة فيها، وكبوة لا استقالة منها، ونبوة لا قرب معها، وزلة لا استقرار بعدها، أوه يا ابن سريج! أين استمساكك بالشريعة! وأين صوارمك السريجية؟ تسلك هذا المضيق في غير طريق، وتخرج إلى الجهل بعد العلم والتحقيق، ما لمحمد والنجوم! ومالك للترامي هكذا والهجوم، ولو رويت من بحر الآثار، لانجلى عنك الغبار، وما خفي عليك في الركوب الفرس من الحمار، وكأنك لم تقرأ في الصحيح من الحديث الصريح، قوله: "نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا"، وأشار بيده الكريمة ثلاث إشارات، وخنس بإبهامه في الثالثة ، فإذا كان ابن سريج وبعض التابعين يتعلق بدقائق النجوم ودرجاتها، فإنا نقول: نحن لا ننكر أصل الحساب، ولا جري العادة في تقدير المنازل، ولكن لا يجوز أن يكون المراد بتأويل الحديث ما تأوله وذكره لوجهين:
أما أحدهما: فما تفطن له مالك وجعله أصلا في تأويل الحديث لمن بعده، وذلك أنه قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الأول: "فاقدروا له" فجاء بلفظ محتمل، ثم فسر الاحتمال في الحديث الثاني فقال: "وأكملوا العدة ثلاثين" فكان تفسير التقدير.
وأما الثاني: فلا يجوز أن يعول في ذلك على قول الحساب، لا لأنه باطل، ولكنه صيانة لعقائد الناس من الارتباط بالعلويات وأن تعلق عباداتها بتداوير الأفلاك ومواقعها في الاجتماع والاستقبال، وذلك بحر عجاج إن دخلوا فيه غرقوا، والنجاة في قوله: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ... " الحديث. فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينفي عن نفسه تصريف الأنامل المعتادة عند أهل الحساب، فأولى وأحرى أن ينفي عن نفسه تصريف الكواكب وتعديلها . ( المسالك 4 /159)
المسألة السادسة : صوم ستة أيام من شوال
جاء في الأحاديث الصحيحة الترغيب في صيام ستة أيام من شوال , وقد اشتهر في كتب المالكية كراهة صومها لمن وصلها برمضان , وكثير من المالكية يقول بأن حديثها لم يصل مالكا , ولو وصله لعمل به .
إلا أن ابن العربي له رأي آخر في المسألة امتاز به عن سائر المالكية , ورأى أن مالكا على حق في قوله بكراهة صيام هذه الأيام بعد رمضان .
وقد انطلق رحمه الله من منطلق لم يتنبه له غيره , وهو النهي عن استقبال العبادة حيث جاء في الحديث الصحيح النهي عن صيام يوم الشك , وعن الصيام قبل رمضان بيوم أويومين , بل جاء في بعض الروايات النهي عن الصيام من منتصف شعبان , والعلة في النهي هنا هي الخوف من استقبال العبادة ويقاس عليه النهي عن تشييعها والجامع بينهما هو خوف زيادة العبادة بشيئ لم يفرضه الله , وهو الأمر الذي وقع فيه النصارى قبلنا وبسببه ضلوا عن الصراط المستقيم .
(ولا يشيعه بصوم ستة أيام ولا سواها فإن العلة التي نهي عن سبقه بصوم هي العلة بعينها موجودة متمكنة في التشييع , وهي أن الله تعالى قد حدد حدودا ووظف وظائف لكل أمة ونهاها عن الزيادة في شيئ منها , أو النقص لها , وأمر بالمحافظة عليها فغيرت الأمم وزادت , ونقصت , وترهبت , وابتدعت ) (سراج المريدين 2/350)
كمايرى رحمه الله أن الحديث المقصود منه العدد لا الزمن , ولذلك الأفضل صومها في عشر ذي الحجة لأن الصوم فيها أفضل من شوال , ورمضان في حد ذاته يقابل ثلا ث مائة يوم , وإذا صام ستتة أيام من السنة فهي تقابل ستة أيام , وعليه يكون صام ثلاث مائة , وستين يوما , وهي السنة المقصودة بقوله فكأنما صام الدهر كله .
(قال عمار بن ياسر: من صام يوم الشك فقد عصا أبا القاسم. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقدموا الشهر بيوم ولا يومين" بل روى أبو داود: "إذا انتصف شعبان، فلا يصومن أحدكم حتى يأتي رمضان" وهذا إنما فعله - صلى الله عليه وسلم - احترازا مما فعله أهل الكتاب؛ لأنهم كانوا يزيدون في صومهم على ما فرض الله عليهم أولا وآخرا، حتى بدلوا العبادة، فلهذا لا يجوز استقبال رمضان ولا تشييعه، ومن أجله قلنا في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من صام رمضان" فقد حصلت له المثوبة بصومه عشرة أشهر، ومن صام ستة أيام، فقد حصلت له مثوبة ستين يوما. وذلك الدهر، فأفضلها أن تكون في عشر ذي الحجة إذ الصوم فيها أفضل منه في شوال المذكور في الحديث، فيكون ذكرها لتحصيل الأجر لا للتوقيت، وقد بيناه في موضعه.( المسالك 4/235)
وهو يرى بأن هذا الأمر من الخطورة بمكان , وربما ينشأ عنه من الأمور ما لا تحمد عقباه فلذلك يحذر منه كثيرا ( فحذار أيتها الأمة المرحومة من ذلك , فلا تصوموا قبل رمضان ولا بعده , وأقبلوا على ما ألزمكم الله من الإمتثال , وخذوا ما أعطاكم ,فإنه بكم رؤوف رحيم . ( سراج المريدين 2/351 )
و مع كثرة شيوخ ابن العربي , واهتمامه بسيرهم , وأفعالهم , وكونه خالط علماء المشرق , والمغرب يقول أنه لم يرى أحدا يتبع الأيام الستة لرمضان إلا شيخ واحد ,فيه رائحة بدعة , ولا يفعل ذلك إخلاصا , وإنما كراهة لمالك ( وما رأيت أحدا من أشياخي كلهم يفعلها إلا واحدا , كان يصبح ثاني الفطر صائما لها , وكانت عليه رائحة بدعة , وكراهة لمالك , فكان يعتمد ذلك لذلك , وما كنت أراها خالصة , وربك أعلم به . ( سراج المريدين 2/ 351)
المسألة السابعة : مسألة الصوم عن الميت
الصوم عن الميت وردت فيه أحاديث عن النببي صلى الله عليه وسلم منها قوله ( من مات وعليه صوم صام عنه وليه ) ومنها (إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها قال نعم فدين الله أحق أن يقضى ) وبسب هذه الأحاديث قال بجوازه جمع من علماء السلف منهم منهم طاووس , والحسن , والزهري , وقتادة , وأبوثور وأهل الظاهر .
وقال بعض العلماء يصوم عنه في النذر دون رمضان وذهب الأكثر إلى أنه لايصوم أحد عن أحد , ولايصلي أحد عن أحد , وممن قال بهذا القول من الصحابة , عائشة , وابن عمر , ومن الأئمة , مالك وأبوحنيفة , ورواية عن الشافعي .
وبما أن هذا القول هو قول مالك فقد انتصر له ابن العربي قائلا هو القول الصحيح , لأن (هذه الأحاديث تعارض القرآن المطلق، وعموم القرآن المقطوع به أولى من الحديث المطلق.
وهذه مسألة تصعب على الشادين إذا صدمتهم هذه الظواهر، وتسهل على العالمين، فخذوا فيها وفي أمثالها دستورا يسهل عليكم السبيل، ويوضح لكم الدليل: لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من مات وعليه صوم، صام عنه وليه" قلنا: لا يخلو هذا الميت أن يكون قدر على الصوم وتركه، أو لم يقدر قط عليه، فإن لم يقدر عليه، لم يجب عليه شيء. وإن قدر على الصوم وتركه مختارا، فكيف تشغل به ذمة وليه؟ وقد قال تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (2) وقال تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} الآية (3)، وهاتان آيتان محكمتان عامتان غير مخصوصتين، ركن في الدين، وأصل للعالمين، وأم من أمهات الكتاب المبين، إليها ترد البنات، ويها يستنار في المشكلات، وقد عارضت هذه الأحاديث ظاهرها. وأما الحسن وأحمد بن حنبل فإنهما تاها عن المسألة وسبيلها، ولم يتفطنوا لما تفطن له مالك - رحمه الله - إذ قال: لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد.
والصحيح من هذه المسألة؛ أن هذه عبادة مختصة بالبدن، فلم تدخلها النيابة كالصلاة.( المسالك 4/222)
.... يتواصل