تعد جائحة كورونا واحدة من اهم الازمات التي ستغير بشكل جذري كل المفاهيم المتعلقة بالأمن الغذائي ،حيث سيتحول من امن نسبي الي امن شبه مطلق، حيث لم يعد بالإمكان الاعتماد علي الغير للحصول علي المنتجات او المدخلات الغذائية الحيوية ،وينضاف هذا التحدي الجديد الي آخر قديم وهو الإنتاج الغذائي في ظل التغيرات المناخية ، فالعالم يشهد اليوم ارتفاعا غير مسبوق في درجات الحرارة، ويترافق هذا الارتفاع بتقلبات مناخية غير معهودة، كموجات الجفاف، والحرّ والفيضانات والاعاصير، تقلبات لم يسلم منها أي بلد عبر العالم، وتشير معظم دراسات استشراف المستقبل الي ان بلادنا ستكون من أكثر البقاع على الارض عرضة لمخاطر هذه التقلبات حيث يعتقد انها ستتعرض لموجات جفاف بوتيرة أكبر من المعهود.
ان اعتماد قطاع التنمية الحيوانية على انظمة الانتاج التقليدية شديدة التأثر بالمناخ من جهة وادمانه على المواد العلفية المركزة المستوردة من الخارج من جهة اخري، يجعله اليوم أحد أكثر القطاعات هشاشة وأكثرها انكشافا خلال الازمات والجوائح، مما يفرض علينا اليوم، اجراء جرد حساب ومكاشفة حقيقية، فمن غير المعقول ان نستمر في شراء معظم احتياجاتنا من الالبان من الخارج وشراء الاعلاف لتوفير اللحوم!
البدايات السليمة
لقد كانت نسبة امتلاك الفرد الموريتاني للماشية الأعلى عالميا، قبل عقد السبعينات، حيث كان القطاع هو العمود الفقري للاقتصاد الوطني، فمنتجاته كانت تثمن بشكل كبير بسبب مرافقة السكان للقطعان ، حيث كان يلعب ادوارا اجتماعية هامة ،جسدت اعلي صور للتكافل الاجتماعي ،فاغلب رؤوس الماشية يمتلكها الملاك الصغار والمتوسطون، كما ان اعدادها تضبط طبيعيا بفعل الاوبئة ،لذلك لم تُسبب ضغطا كبيرا على المراعي ،وظلت حالة التوازن تلك سائدة لفترة طويلة، واستطاع القطاع ان يحافظ على ديناميكيته وتنافسيته بالرغم من اجبار المنمين علي دفع الضرائب ابان الاستعمار الفرنسي.
شكل الغاء الضرائب على الثروة الحيوانية أحد اهم تجليات الاستقلال في اعين الكثيرين في بلادنا، حيث يمكن الحديث عن عقد اجتماعي، يتم بموجبه اعفاء المنمين من دفع الضرائب، مقابل التنازل عن كثير من المطالبات الاجتماعية، وقد ظل هذا العقد يحقق نوعا من التوازن لفترة طويلة.
إشكالية القطاع
تملك البلاد اليوم قطعانا هائلة تسبب ضغطا كبيرا على الموارد الطبيعية حيث تسبب تدهور التربة وانجرافها وتراجع الغطاء النباتي كما وكيفا، كما انها تستنزف الخزينة العمومية بسبب حملات توفير الاعلاف، والأخطر من كل هذا امكانية تبدل فيزيولوجيا الهضم عند قطعاننا نظرا لاعتمادها الكبير على المركزات.
إن الاضرار البيئية طويلة الأمد المترتبة على تلك القطعان قد تفوق قيمة تلك الثروة، لذلك صار من اللازم مراجعة هذا النموذج ولا شك ان الجائحة الحالية تشكل فرصة نادرة لاستلهام الدروس والعبر.
زمام المبادرة
غالبا ما تنبع الحلول الناجعة من رحم معاناة المتضررين، ولا يعد المنمون في بلادنا شذوذا لتلك القاعدة، حيث أصبح من الواضح لدي الأغلبية الساحقة منهم ان النموذج الحالي غير قابل للاستمرار، بسبب الخسائر الاقتصادية التي يتكبدونها والاحراج الذي يسببه طلب الدعم من ميزانية الدولة خصوصا في ظل ازمة كورونا.
خلال اجتماع مع ممثلين لمنتظم للمنمين يدعي الرأي الوطني للمنمي كٌرس لتدارس مشاكل واعتلالات القطاع املا في إيجاد حلول مستدامة، تم طرح السؤال التالي: إذا كانت المملكة العربية السعودية تستورد الاعلاف من مزارع أمريكا اللاتينية وتصدر الحليب لبلادنا، فلماذا نعجز نحن عن جلب الاعلاف من مزارعنا خصوصا اننا نملك الأرض والماء؟
كٌلفت من طرف هذا المنتظم بإعداد دراسة جدوائية فنية مالية لمزرعة نموذجية للأعلاف على مستوي الضفة، لتوفير اعلاف مالئة ذات جودة غذائية عالية بسعر اقتصادي، يسمح بتوفير حاجيات القطعان في فصل الصيف وفيما يلي ملخص لأهم الدروس المتحصل عليها من تلك الدراسة:
يمكن توفير الاعلاف للقطعان في فترة الصيف في مناطق رعيها؛
تملك البلاد حوالي 24 477 000 رأسا من الماشية أي ما يعادل 4 087 008 وحدة حيوان مدارية UBTتقدر احتياجاتها ب 2 419 508 736 وحدة علفية UF بينما توفر المراعي الطبيعية ومخلفات الزراعة بشكل متوسط 2 208 475 562 وحدة علفية وعليه يكون العجز السنوي بحدود 255 010 866 وحدة علفية؛
تكفي مساحة 20000 هكتارا للقضاء على العجز والتوقف عن استيراد الاعلاف المركزة؛
تكفي مساحة 3800 هكتارا لتوفير الاعلاف المكافئة لخمسين ألف طن من القمح؛
تم تحيد ستة أنواع من النباتات العلفية الملائمة؛
سيتم انتاج بالات اعلاف بكثافة 250 الي 400 كغ/متر مكعب مما يخفض سعر النقل بحيث يمكن تزويد القطعان في مناطق تواجدها؛
بينت الدراسة جدوائية انتاج الاعلاف وتجفيفها وكبسها ونقلها بثمن تكلفة منافس للوحدة العلفية (مكافئ لكيلوغرام علف مركز لكنها أفضل من الناحية الغذائية)، مما سيمكن المنمين من الإقلاع عن شراء الاعلاف المركزة المستوردة.
سيعمد المنتظم على إقامة مزرعة نموذجية لزراعة الاعلاف وتجفيفها وكبسها على صورة بالات، ونقل الاعلاف للمواشي في مناطق رعيها وستعمم التجربة في حالة نجاحها مع إمكانية خلق حوض انتاج تكثيفي للألبان.
ان نجاح هذه التجربة من شأنه خلق فرص عمل للشباب وتوفير العملة الصعبة وتحقيق نمو مستدام لتلك الثروة، مما سيقلل من الانعكاسات البيئية، ويحسن من قدرة البلاد على تحقيق الامن الغذائي، ولا شك ان تجاوب وزارة التنمية الريفية الكبير يعكس حجم الآمال التي يعلقها صناع القرار علي نجاح هذه التجربة.