(الرد على المشبهين ...تابع) ، وقد استدل الإمام الرازي بقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام :(وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا مسلما) على تنزيه الله تعالى وتقديسه عن التحيز والجهة، وقال الرازي: أما دلالتها على تنزيه الله تعالى عن التحيز فمن وجوه:
أحدها أنا سنبين إن شاء الله تعالى أن الأجسام متماثلة فإذا ثبت ذلك فنقول ما صح على أحد المثلين وجب أن يصح على المثل الآخر فلو كان تعالى جسما أو جوهرا وجب أن يصح عليه كل ما صح على غيره وأن يصح على غيره كل ما صح عليه وذلك يقتضي جواز التغير عليه ولما حكم الخليل صلى الله عليه وسلم بأن المتغير من حال إلى حال لا يصلح للإلهية وثبت أنه لو كان جسما لصح عليه التغير لزم القطع بأنه تعالى ليس بمتحيز أصلا.
الثاني أنه عليه السلام قال عند تمام الاستدلال:(وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض) فلم يذكر من صفات الله تعالى إلا كونه خالقا للعالم، والله تعالى مدحه على هذا الكلام وعظمه فقال : وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء ) ولو كان إله العالم جسما موصوفا بمقدار مخصوص وشكل مخصوص لما كمل العلم به تعالى إلا بعد العلم بكونه جسما متحيزا"
ويقول الهندي في شرحه على الطحاوية عند قول الإمام الطحاوي:(تعالى الله عز وجل عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات) إذ الحد وصف المحدود، وهو المحصور المقهور تحت قهر الحد، وهو قهار فلايكون محدودا، والغاية عبارة عن النهاية، والأركان والأعضاء صفات الأجسام، والأدوات آلات الأجسام، والقديم سبحانه وتعالى منزه عن هذه الأوصاف كلها.(لاتحويه الجهات الست كسائر المبتدعات) لأنه تعالى نفى أن يكون مثلا لشيء بقوله:( ليس كمثله شيئ) وفي إثبات الجهة والتحيز إثبات للمماثلة والأجسام، وفي وصفه بالجهات قول بإحاطتها، وفي القول بالتمكن بالمكان إثبات الحاجة وفي ذلك إيجاب حدوثه، وإزالة قدمه، والجهات والأمكنة من أجزاء العالم وهو مستغن عن العالم وأجزائه، ولأن الجهات الست محدثة وهي أوصاف للعالم المحدث والله قديم"
ويرد الباقلان على من يسأل أين هو؟ ، بقوله "الأين" سؤال عن المكان وليس هو ممن يجوز أن يحويه مكان ولا تحيط به أقطار، غير أنا نقول إنه على عرشه لا على معنى كون الجسم بالملاصقة والمجاورة تعالى عن ذلك علوا كبيرا"
واعلم أنه تعالى كما نص على أنه تعالى واحد فقد نص على البرهان الذي لأجله يجب الحكم بأنه أحد وذلك أنه قال : ( هو الله أحد ) وكونه إلها يقتضي كونه غنيا عما سواه وكل مركب فإنه مفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره وكونه إلها يمنع من كونه مفتقرا إلى غيره وذلك يوجب القطع بكونه أحدا وكونه أحدا يوجب القطع بأنه ليس بجسم ولا جوهر ولا في حيز وجهة فثبت أن قوله تعالى : ( هو الله أحد ) برهان قاطع على ثبوت هذه المطالب. وأما قوله سبحانه وتعالى: ( الله الصمد ) فالصمد هو السيد المصمود إليه في الحوائج وذلك يدل على أنه ليس بجسم وعلى أنه غير مختص بالحيز والجهة.
أما بيان دلالته على نفي الجسمية فمن وجوه:
الأول: أن كل جسم فهو مركب وكل مركب فهو محتاج إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره فكل مركب فهو محتاج إلى غيره والمحتاج إلى الغير لا يكون غنيا محتاجا إلى غيره فلم يكن صمدا مطلقا.
الثاني: لو كان مركبا من الجوارح وأعضاء لاحتاج في الإبصار إلى العين وفي الفعل إلى اليد وفي المشي إلى الرجل وذلك ينافي كونه صمدا مطلقا
الثالث: أنا نقيم الدلالة على أن الأجسام متماثلة والأشياء المتماثلة يجب اشتراكها في اللوازم فلو احتاج بعض الأجسام إلى بعض لزم كون الكل محتاجا إلى ذلك الجسم ولزم أيضا كونه محتاجا إلى نفسه وكل ذلك محال ولما كان ذلك محال وجب أن لا يحتاج إليه شيء من الأجسام ولو كان كذلك لم يكن صمدا على الإطلاق.
وأما بيان دلالته على أنه تعالى منزه عن الحيز والجهة فهو أنه تعالى لو كان مختصا بالحيز والجهة لكان إما أن يكون حصوله في الحيز المعين واجبا أو جائزا فإن كان واجبا فحينئذ يكون ذاته تعالى مفتقرا في الوجود والتحقق إلى ذلك الحيز المعين وأما ذلك الحيز المعين فإنه يكون غنيا عن ذاته المخصوص لأنا لو فرضنا عدم حصول ذات الله تعالى في ذلك الحيز المعين لم يبطل ذلك الحيز أصلا وعلى هذا التقدير يكون تعالى محتاجا إلى ذلك الحيز فلم يكن صمدا على الإطلاق أما إن كان حصوله في الحيز المعين جائزا لا واجبا فحينئذ يفتقر إلى مخصص يخصصه بالحيز المعين وذلك يوجب كونه محتاجا وينافي كونه صمدا.
فانظر كيف تلطف الشرع بقلوب الخلق وجوارحهم في سياقهم إلى تعظيم الله وكيف جهل من قلت بصيرته ولم يلتفت إلا إلى ظواهر الجوارح والأجسام وغفل عن أسرار القلوب واستغنائها في التعظيم عن تقدير الجهات، وظن أن الأصل ما يشار إليه بالجوارح ولم يعرف أن المظنة الأولى لتعظيم القلب وأن تعظيمه باعتقاد علو الرتبة لا باعتقاد علو المكان، وأن الجوارح في ذلك خدم وأتباع يخدمون القلب على الموافقة في التعظيم بقدر الممكن فيها، ولا يمكن في الجوارح إلا الإشارة إلى الجهات، فهذا هو السر في رفع الوجوه إلى السماء عند قصد التعظيم، ويضاف إليه عند الدعاء أمر آخر وهو أن الدعاء لا ينفك عن سؤال نعمة من نعم الله تعالى، وخزائن نعمه السموات، وخزان أرزاقه الملائكة ومقرهم ملكوت السموات وهم الموكلون بالأرزاق. وقد قال الله تعالى: " وفي السماء رزقكم وما توعدون ". والطبع يتقاضى الإقبال بالوجه على الخزانة التي هي مقر الرزق المطلوب، فطلاب الأرزاق من الملوك إذا أخبروا بتفرقة الأرزاق على باب الخزانة مالت وجوههم وقلوبهم إلى جهة الخزانة، وإن لم يعتقدوا أن الملك في الخزانة فهذا هو محرك وجوه أرباب الدين إلى جهة السماء طبعاً وشرعاً،فأما العوام فقد يعتقدون أن معبودهم في السماء، فيكون ذلك أحد أسباب إشاراتهم، تعالى رب الأرباب عما اعتقد الزائغون علواً كبير.
ولو أن القوم تأملوا كثيرا في قوله تعالى: (ليس كمثله شيئ) لوفروا على الأمة الكثير من المداد كما يقول الشيخ خليل دريان الأزهري: " لأن هذه الآية "تفهم التنزيه الكلي، لأن الله تبارك وتعالى ذكر فيها لفظ "شيء" في سياق النفي، والنكرة إذا وردت في سياق النفي فهي للشمول، فالله تباك وتعالى نفى بهذه الجملة مشابهة الأجرام والأجسام والأعراض، فهو تبارك وتعالى كما لا يشبه ذوي الأرواح من إنس وجن وملائكة وغيرهم لايشبه الجمادات من الأجرام العلوية والسفلية أيضا، فالله تبارك وتعالى لم يقيد نفه الشبه عنه بنوع من أنواع الحوادث ...ويشمل نفي مشابهة الله لخلقه تنزيهه تعالى عن المكان والجهة والكمية والكيفية"
فأي لفظ أو صفة وردت في كتاب الله أو حديث النبي صلى الله عليه وسلم ويوجد مثلها في البشر يجب أن تأخذ في إطار هذه الآية المحكمة و "القاعدة" الثابتة: (ليس كثله شيء).
المجاز في القرآن
لعل قضية إنكار المجاز في القرآن؟، من أبرز الأسباب التي أدت إلى انحراف الكثيرين، إن لم تكن الأساس ويقول الإمام الزركشي " ولو وجب خلو القرآن من المجاز لوجب خلوه من التوكيد والحذف وتثنية القصص وغيره ولو سقط المجاز من القرآن سقط شطر الحسن"
فالقرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، فمن الطبيعي جدا بل من الضروري أن يشتمل على المجاز وهو يخاطب قوما بلسانهم الذي يعد المجاز من عناصر جماله.
واتفق أكثر أهل علوم اللسان وأهل الأصول على وقوع المجاز في القرآن؛ لأن القرآن نزل بلسان العرب، وعادة فصحاء العرب استعمال المجاز، ولا وجه لمن منعه؛ لأن الواقع منه في القرآن أكثر من أن يحصى."
والمجاز كما يرى ابن قدامه هو:" اللفظ المستعمل في غير موضوعه الأصلي على وجه يصح كقوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} ،{وَاسْأَلِ الْقَرْيَة}، {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضّ}، {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ ... }، .. {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّه} أي: أولياء الله، وذلك كله مجاز، لأنه استعمال اللفظ في غير موضوعه. ومن منع ذلك فقد كابر، ومن سلم وقال: لا أسميه مجازًا: فهو نزاع في عبارة لا فائدة في المشاحة فيه"
وفي كتاب الرسالة للإمام الشافعي: باب: الصنف الذي يبين سياقه معناه. قال الله تبارك وتعالى: " وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ".
فابتدأ - جل ثناؤه - ذكر الأمر بمسألتهم عن القرية الحاضرة البحر، فلما قال: " إذ يعدون في السبت "الآية، دل على أنه إنما أراد أهل القرية؛ لأن القرية لا تكون عادية، ولا فاسقة بالعدوان في السبت ولا غيره، وأنه إنما أراد بالعدوان أهل القرية الذين بلاهم بما كانوا يفسقون.
وقال: "وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ". وهذه الآية في مثل معنى الآية قبلها، فذكر قصم القرية، فلما ذكر أنها ظالمة بان للسامع أن الظالم إنما هم أهلها، دون منازلها التي لا تظلم، ولما ذكر القوم المنشئين بعدها، وذكر إحساسهم البأس عند القصم، أحاط العلم أنه إنما أحس البأس من يعرف البأس من الآدميين.
وهنا سأورد كلاما نفيسا أورده العلامة اللغوي المحقق المدقق ابن جني رحمه الله في كتابه الخصائص تحت عنوان :
باب فيما يؤمنه علم العربية من الاعتقادات الدينية .قال رحمه الله: اعلم أن هذا الباب من أشرف أبواب هذا الكتاب، وأن الانتفاع به ليس إلى غاية ولا وراءه من نهاية. وذلك أن أكثر من ضل من أهل الشريعة عن القصد فيها وحاد عن الطريقة المثلى إليها فإنما استهواه "واستخف حلمه" ضعفه في هذه اللغة الكريمة الشريفة، التي خوطب الكافة بها، وعرضت عليها الجنة والنار من حواشيها وأحنائها، وأصل اعتقاد التشبيه لله تعالى بخلقه منها، وجاز عليهم بها وعنها. وذلك أنهم لما سمعوا قول الله -سبحانه، وعلا عما يقول الجاهلون علوا كبيرًا: {يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} وقوله: "عز اسمه: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وقوله: تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} وقوله، {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} وقوله: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} ونحو ذلك من الآيات الجارية هذا المجرى وقوله في الحديث: "خلق الله آدم على صورته"، حتى ذهب بعض هؤلاء الجهال في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} أنها ساق ربهم -ونعوذ بالله من ضعفة النظر، وفساد المعتبر- ولم يشكوا أن هذه أعضاء له، وإذا كانت أعضاء كان هو لا محالة جسمًا معضىً؛ على ما يشاهدون من خلقه، عز وجهه، وعلا قدره، وانحطت سوامى "الأقدار و" الأفكار دونه. ولو كان لهم أنس بهذه اللغة الشريفة أو تصرف فيها، أو مزاولة لها لحمتهم السعادة بها، ما أصارتهم الشقوة إليه، بالبعد عنها. وسنقول في هذا ونحوه ما يجب مثله. ولذلك ما قال رسول الله -صلى اله عليه وسلم- لرجل لحن: أرشدوا أخاكم فإنه قد ضل، فسمي اللحن ضلالًا وقال عليه السلام: "رحم الله امرأ أصلح من لسانه"، وذلك لما "علمه -صلى الله عليه وسلم- مما يعقب" الجهل لذلك من ضد السداد، وزيغ الاعتقاد.
وطريق ذلك أن هذه اللغة أكثرها جارٍ على المجاز، وقلما يخرج الشيء منها على الحقيقة. وقد قدمنا ذكر ذلك في كتابنا هذا وفي غيره. فلما كانت كذلك، وكان القوم الذين خوطبوا بها أعرف الناس بسعة مذاهبها وانتشار، أنحائها جرى خطابهم بها مجرى ما يألفونه ويعتادونه منها وفهموا أغراض المخاطب لهم بها على حسب عرفهم وعادتهم في استعمالها. وذلك أهم يقولن: هذا الأمر يصغر في جنب هذا أي بالإضافة إليه و"قرنه به". فكذلك قوله تعالى: {يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} "أي فيما بيني وبين الله" إذا أضفت تفريطي إلى أمره لي ونهيه إياي....إلخ.
إلى آخر ما ذكره وحديد زمانه وشيخ أقارنه في اللغة في هذا الباب من الأمثلة الكثيرة.
..........يتبع