كيف ننتفع بالقرآن  (3) / محفوظ ولد إبراهيم فال

{ ورتل القرآن ترتيلا } سبق معنا أن الانتفاع بالقرآن يبدأ بالعلم والشعور بعظمة المنة في إنزاله وتعليمه؛ وأنه بقدر الشعور بتلك النعمة وإدراك مدى الحاجة إليها وما تضيفه للإنسان من خيري الدنيا والآخرة يكون حب القرآن والتعلق به والإقبال عليه بصدق 
والحرص على الحظ الموفور من بركاته غير المحدودة ولا المتناهية؛
 وسيكون الانتفاع بالقرآن  قائم على إحكام أربعة أمور تتكامل فيما بينها وتتعاضد وتتداعى وتتوارد وحظ الإنسان منها حظه من القرآن فليستقل أو ليستكثر، وليستغن أويفتقر، وليبتغ المؤمن في ذلك كله عطاء من لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ؛ من أنزل القرآن، وعلم القرآن، وحفظ القرآن، جل وعلا
وهذه الأمور الأربعة هي:
– تلاوة القرآن حق التلاوة { الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به }
– تدبره حق التدبر  { كتاب أنزلته مبارك ليدبروا آياته }
– التذكر به حق التذكر { وليتذكر أولوا الألباب }
– اتباعه حق الاتباع { وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون } 
وهذه الأمور الأربعة مرتبطة كما هو واضح فحسن التلاوة يعين  على التدبر ومن أحسن التدبر أثمر له التذكر والاتعاظ والاعتبار؛ ومن تذكر واتعظ سارع إلى الاتباع والعمل وبذلك يكون من أهل القرآن في الدنيا القابلين لنعمته الشاكرين لها المنتفعين بها المصطفين به المحفوظين به ...
 قيل للحسن البصري رحمه الله : فلان يحفظ القرآن فقال بل القرآن يحفظه. 
وأستعين الله تعالى على تناول هذه الأمور الأربعة بالترتيب بقدر من الإجمال ثم العودة إلى التدبر خصوصا بشيء من البسط والتفصيل مع الاهتمام بالأمثلة العملية من حياة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وذكر بعض المقترحات العملية بإذن الله تعالى 
             
▪︎تلاوة القرآن الكريم 

إن تلاوة القرآن الكريم والإكثار منها آناء الليل وأطراف النهار نعمة من الله تعالى تستحق أن يشكرها من رُزقها ويسألها ويسعى إليها من حرمها وقد أمر الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن كثيرا قال الله: { واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا } { اتل ما أوحي من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلوة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون } { قل إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن }

وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك ربى صحبه الكرام فكانت تلاوة القرآن ديندنهم وكان القرآن كتابهم الأول والثالث والرابع ... ليس لهم كتاب سواه، ولا ينافسه مصدر عداه، يقرءونه بألسنتهم ويسمعونه بآذانهم ويرونه بأعينهم في أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم وقيامه الدؤوب به وتمثله الكامل لهداه وسناه ويعيشون وقائعه ابتلاء واجتباء ونصرا وهزيمة كما يأتي في فصل "العمل بالقرآن"

وقد أعظم الله أجر تلاوة القرآن والأحاديث في ذلك معلومة مشهورة ومنها ؛

 _عن أبي امامة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( اقْرَأُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَةِ شَفِيعاً لأَصْحَابِهِ )) رواه مسلم

_وعن ابن مسعود رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( مَنْ قَرَأَ حَرْفَاً مِنْ كِتَابِ الله فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لاَ أَقُولُ آلم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْف ولامٌ حَرْفٌ وَميمٌ حَرْفٌ  )) رواه الترمذى وهو حديث صحيح

_روى الترمذي وأبو داود واللفظ له ، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يقال لصاحب القرآن : اقرأ وارتق ورتل ، كما كنت ترتل في الدنيا ، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها ) .

وما أجمل وأكمل أن يجد الإنسان صحيفته يوم القيامة مليئة بكتاب الله وأن يكون أكثر ما يقرأ على رؤوس الأشهاد يوم القيامة كلام الله تعالى حين ينادى عليه { اقرا كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا }
وما أثقل ميزانا عظم حظه من القول الثقيل  نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يوسع من ذالك عطاءنا 
تلك المكارم لا قعبان من لبن ...شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
      
أدب التلاوة:
وبقدر الإحسان في التلاوة تكون الثمرة والبركة ويكون الإحسان في التلاوة بأمور من أهمها:

أ) المكث في القراءة والمهل في التلاوة وعدم العجلة والهرذمة حتى يأخذ كل من اللسان والسمع والفؤاد حظه من كل كلمة ومن كل حرف وقد قال الله تعالى:
{ ورتل القرآن ترتيل } والترتيل  مشتق من الرتل وهو تباعد الأسنان والمراد به تباعد الحروف والكلمات في النطق وعدم إدخال بعضها في بعض  قال تعالى: { وقرآنا فرقته لتقرأه على الناس على مكث } وليس على عجل وكذلك كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم مدا لو شاء العاد أن يعد أحرفه لعدها ووصف حذيفة قيامه فقال: يقرأ مترسلا إذا مر بآية تسبيح سبح وإذا مر بآية سؤال سأل....
وذلك من أعظم ما يعين على التدبر، والتدبر كذلك يعين عليه؛ فإن ورود المعاني العظيمة على القلب وأثرها فيه يفرض التؤدة في القراءة والتباطؤ في التلاوة ويكون صاحبها كحامل الثقيل لا طاقة له على الإسراع وهل هنالك معان أعظم وأجل من واردات القرآن لا سيما إذا تعلقت بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا أو بعهوده ومواثيقه ووصاياه وأمانته فللمؤمن المتدبر هنا إحساس ووجدان تنوء بحمله الجبال الراسيات 

ب) اختيار الوقت المناسب وطلب فرصة الراحة البدنية والذهنية وأفضل الأوقات ساعات اليل حيث الراحة والهدوء والتعرض لما يعرضه الجواد الكريم البر الرحيم جل وعلا من فيوضات وعطاءات 

ج)  أن لا يكون الهم الانتهاء والإكمال للقراءة بل يأتي وهو يريد أن يعيش مع القرآن يستفتح خزائنه ويسترزق من علمه وحكمته ويستطعم أنواره وما يسيل به واد القلب من غيث القرآن { فسالت أدوية بقدرها } 
وقد كان السلف ينبهون على هذا المعنى قال ابن مسعود رضي الله عنه: لا تهذوه  هذ الشعر ولا تنثروه نثر الدقل وقفوا  عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة. [البيهقي في الشعب ١٢٠٤ ]و[ابن أبي شيبة ج٢ص٣٥٦ ]
وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى : 
" يابن آدم كيف يرق قلبك وإنما همتك آخر السورة "

وهذا أمر جلي فإن المستعجل على الانتهاء والانصراف همه وفكره متعلق بالمنصرف إليه مشغول به غير فارغ لما بين يديه.

ج) القراءة في الصلاة أو المصحف فهي أدعى للحضور ويحسن أن يختار مصحفا بهامشه مختصر في بيان الغريب وأسباب النزول ونحو ذلك ويتعاهده بالنظر كلما تستشكل فسيحفظه مع الوفت

د) التفاعل مع المتلو فيدعو حين يعرض الله أفضاله ويسأل الهداية حين تعرض صفات المهتدين ويستعيذ ويشفق حين يخوف بالوعيد وينذر  بالتهديد كما مضى في حديث حذيفة رضي الله عنه 

ه) تكرار الآيات خصوصا عند التأثر وكشف الحجاب أو عند الاستغلاق والاستعجام وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليلة كلها يكرر الآية الواحدة مثل قول الله تعالى:
{ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم }

وقام تميم الداري رضي الله عنه ليلة يكرر قول الله تعالى:
{ أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون }

وعن القاسم قال: كنت إذا غدوت أبدأ ببيت عائشة –رضي الله عنها- فأُسَلِّم عليها فغدوت يوما فإذا هي قائمة تسبح وتقرأ: {فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم} وتدعو وتبكي وترددها، فقمت حتى مللت القيام فذهبت إلى السوق لحاجتي ثم رجعت فإذا هي قائمة كما هي تصلي وتبكي-رضي الله عنها " رواه أحمد في الزهد وأبو نعيم في الحلية
وهذا ما قصده ابن مسعود " وقفوا عند عحائبه وحركوا به القلوب "

ولا يحسبن أحد أنهم كانوا يكررون اللفظ فقط وإنما تتوارد عليهم المعاني ويعيشونها في شهود عظيم ويطفق خيالهم في آفاق شاسعة مع كل تكرار أو ترداد وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم 
نسأله أن لا يحرمنا بذنوبنا ولا يطردنا بعيوبنا

يتواصل إن شاء الله تعالى ....

4. مايو 2020 - 8:50

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا