في ظلال التراويح (4) / محمد المصطفى الولي

تمثل وقفة الظلال من ورد التراويح الليلة مشهدا من مظاهر لحمة واحدة يصعب تقسيمها إلى مقاطع ومحطات وفواصل ، شأنها في ذلك شأن بقية سور القرآن الكريم التي تتميز كل سورة منه بموضوعاتها وطابعها الخاص ، الوقفة التراويحية كانت في ظلال سورة " يونس " وهي سورة مكية نزلت بالمدينة في اليهود ويبلغ عدد آيها مائة وتسع ءايات ، بدأت بسؤال استنكاري ردا على المعترضين على إرسال النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان أوحي إليه على أساس أنه رجل منهم فكان التقرير : ( أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس ..) ، وهذا طرف من سؤال طالما قوبل به كل نبي مرسل : أبعث الله بشرا رسولا ؟؟ لأن طارحي السؤال لايدركون قيمة الإنسان الذي يتمثل في مكونهم البيلوجي ، لذلك استنكروا على بشر أن يكون رسولا لله وهي شبهة كانت عند الكفار المكذبين في عهد النبي صلى  الله عليه وسلم .

وللسورة موجات تتدفق معانيها في ترابط يؤثر على القلب البشري المتتبع لإيقاع خطابها المتنوع ، بدءا من أمر المشركين وتعجبهم في طريقة استقبالهم للوحي ، وكذلك عرض المشاهد الكونية التي تتجلى فيها ألوهية الله تبارك وتعالى....إلى عرض مشاهد القيامة وأحوال البشر في مواجهة الأحداث والتحديات التي يواجهونها... ثم تطرقت لمصارع الغابرين ...وغير ذلك من الموضوعات التي اشتملت عليها السورة ، من حديثها عن قصة نوح عليه السلام ومن بعده باقتضاب ، وقصة موسى مع الإشارة إلى قصة يونس ، ثم يتألف مقطع السورة الأخير بعد ذلك .

السورة عرفت أيضا ببعض المظاهر الكونية التي تدل على وحدانية الله وقدرته ، و كونه هو ( الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ) بين الخلائق ويجعل الشمس ضياء للكائنات والقمر نورا للموجودات ...كل ذلك من إظهار بدائع صنعه ودلائل قدرته وعلمه وآياته التي يفصلها لقوم يعلمون . ثم تعرج السورة على ما أعد الله لكل واحد من الفريقين بصورة تقابلية بديعة ، فالذين لايرجون لقاء الله وغفلوا عن ءاياته أولئك مأويهم النار بماكانوا يكسبون ، وفي مقابل ذلك الذين ءامنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات نعيم ، دعواهم في نهاية المطلب أن : " الحمدلله رب العالمين " .

ولمواصلة الرد تعود السورة إلى رصد واقع الأمم السابقة التي تعرضت للهلاك بسبب ظلمها وتكذيبها ، رغم مجيئها الرسل بالآيات البينات ، وعبادتهم للأصنام بدعوى أنهم شفعاؤها عند الله ، وحين ينتهي السياق من عرض ما يقول المكذبون ...يعود الحديث ليلتقط زاوية من زوايا القرءان التصويرية تبين أن الإنسان المخلوق لا يذكر الله إلا في ساعة العسرة والضيق ، وعندما يأ من ويعود إلى سرائه يتملكه الطغيان والنسيان ..(وإذامس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أوقائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه .......) . وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في ءاياتنا.......) ، تماما مثل ماصنع قوم فرعون بموسى ، وقريش بمحمد صلى الله عليه وسلم ، لكن الله أقدرعلى التدبير وأسرع مكرا ، وهذا ما تقرره الآيات : ( هو الذي يسيركم في البحر حتى إذاكنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة ....) هذه كانت مشاعر أهل الفلك الذين كانوا جزء من حالة لم تسلمها زهوة الحياة الدنيا وخصبة أرضها ومرعها ...بل جعلها الله في ومضة حصيدا كأن لم تغن بالأمس ، وهنا الفرق بين دار يمكن أن تطمس معالمها في لمح البصر وقد أخذت زخرفها وازينت ، ودار السلام التي يدعوا إليها الباري عز وجل ويهدي من يشاء إلى الصراط المستقيم المؤدي إليها في خاتمة درس اللمسات الوجدانية هذه .

ثم تتوالى جولات السورة لتجوب معظم جوانب الموضوعات التي احتوتها السورة من قصص الأنبياء وجوانب النفس وعوالم الفكر والشعور والتأملات ، وتختم وقفتنا هذه وقد عدنا معها من طول التطواف وضخامة الجني وامتلاء الوطاب إلى مصير جبار مصر وفرعون الأرض الذي عصى الله وتجرأ عليه وكان من المفسدين ، فكانت نجاة بدنه الذي لاتأكله الأسماك رغم وجوده في البحر عبرة ليدرك الجماهير كيف كان مصيره ، ( ولتكون لمن خلفك ءاية وإن كثيرا من الناس عن ءاياتنا لغفلون ) . ثم يسدل الستار على نهاية المشهد ومأساوية البغي والفساد والتحدي والطغيان ... بلمحة سريعة عن مآل بني إسرائيل وأنهم تبوأو مقام صدق ورزقوا من الطيبات ، قبل أن يختلفوا في دينهم ودنياهم بعد ماجاءهم العلم ...والله يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون :

مبوأ الصدق الذي قد بوؤوا *** الشام والمقدس ذا المبوأ

أومصر والشام وكانوا مجمعين *** على الرسالة لخير المرسلين

ولم يزالوا في اتفاق حتى *** جاءهم العلم بذاك بتا

وهو النبي فالعلم للمعلوم *** أتى هنا عند ذوي العلوم

أو وحينا فافترقوا شذر مذر *** منهم من ءامن ومنهم من كفر .

نفعنا الله وإياكم بالقرءان العظيم وتاب علينا وعليكم إنه هو التواب الرحيم ، وتقبل منا ومنكم الصيام والقيام وضاعف لنا ولكم الأجر إنه جواد كريم .

أعلى النموذج

أسفل النموذج

5. مايو 2020 - 13:42

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا