في ظلال التراويح (5) / محمد المصطفى الولي

من ورد التراويح لهذه الليلة سورة سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، والتي افتتحت بإنزال الكتاب الذي هو القرءان الكريم على النبي صلى الله عليه  وسلم  للتعدي من منطقة اللوح المحفوظ ليباشر مهمته في الوجود ، وهي إخراج البشرية من ظلمات الوهم وخرافة الحيرة في تيه الغي والضلال ...( لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ) ، وفي هذا استعارة الظلمات للكفر والجهل ، والنور للإيمان والعلم ، لأن الكفر بمنزلة الظلمة والإسلام بمنزلة النور الذي يشرق في القلب فيضيء به كيان المخلوق المركب من الطينة الغليظة ومن نفخة الروح ، حتى لا يستحيل طينة معتمة يغشاها طمس البصيرة ويشوبها غبش الأوهام ويحجبها ضباب الشبهات .

ولن تكون عملية الإخراج هذه ومهمة التبليغ التي ليس للرسول قدرة ولا وظيفة غيرها إلا بتوفيق من الله ولطف منه سبحانه وتعالى ، حيث يكون التحول بمشيئته من الظلمات إلى النور ...إلى طريق الله وصراطه وناموسه الذي يحكم الوجود في ظل شريعة تنظم الحياة وتهذب النفوس ولا تخطئ التصور ولا السلوك : ( بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد الذي له ما في السموات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد .... ) . 

ثم تكشف السورة المكية المكونة من اثنين وخمسين آية عن معنى العلة لكفر الكافرين بنعمة الله التي جاء بها رسوله الكريم ، وهي استحبابهم وإيثارهم للحياة الدنيا على الآخرة وتمسكهم بزخرف الدنيا ومتاعها الفاني الزائل ، ومنعهم الناس من الدخول في الإسلام ، كان ذلك سببا يتعارض مع الاستقامة على الصراط ومنزلقا يصطدم بتكاليف الإيمان الذي يقتضي حسن الخلافة في الأرض تمهيدا للآخرة . لتدخل السورة بعد ذلك في تبيان أن من نعم الله الشاملة للبشرية أن يرسل إليها في كل رسالة من يتحدث بلغتها ، لأن ذلك جزءا من كفاءة النبي المرسل ومن تمام غاية الرسالة ، وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بلسان قومه _ وإن كان رسولا إلى الناس كافة _ لأن قومه هم الذين سيحملون رسالته إلى الناس ومن ثم تكون أرضهم مهدا يخرج منها حملة مشعل الدعوة إلى سائر بقاع الأرض .

وهكذا يوحد التعبير القرآني شروعا في تفصيل ما أجمل في الآيات السابقة بين صيغة الأمر الصادر لموسى وللنبي عليهما صلاة الله وسلامه تمشيا مع نسق الأداء في السورة المنبه على أن الأمر للنبي صلى الله عليه في الآية الأولى: ليخرج الناس من الظلمات إلى النور هو لكافة الناس ، بينما الأمر في الآية الثانية : ( أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله ) خاص بموسى ، حيث شرع يؤدي رسالته ويذكر قومه بنعم الله عليهم إذ أنجاهم من آل فرعون وظلمهم وممارساتهم التي تخل بحياء نسائهم ، فكان من نعم الله عليهم أن أنقذهم من هذا العذاب الحامل في طيات بلائه امتحانات الصبر والعزم والاستقامة على الهدى في مقابل النجاة.....ثم يمضي موسى في البيان لقومه موضحا حقيقة زيادة النعمة بالشكر وأنها دليل على سلامة المقاييس في النفس البشرية التي اطمأنت إلى وعد الله ، أدركت الأسباب أم لم تدركها، والكفر بنعمة الله قد يكون بنسبتها إلى المجهود والكد الشخصي ، كأن الشخص يغفل عن كون ذلك إحدى طاقات أنعم الله بها عليه ، ولإحياء المشاهد القصصية وانسجام النسق الحواري مع قوم موسى واعتراضهم على بشرية الرسل الذين يطلقون حقيقة التوكل على الله مضيفين في سؤال يتكئ على التقرير والتوكيد : ( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ، ومالنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ؟؟ ولنصبرن على ماءاذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون ) ...كلمات تنبئ عن الاطمئنان إلى ثبات الموقف واستقامة الطريق لمنتصر انهزم عدوه أمام معركة تجلت طبيعتها بين الإسلام والقوة الجاهلية المادية بعد نقلها من حكاية تروى إلى مشهد موثق بالصوت والصورة ، يرى ويسمع ، تتحرك فيه الشخوص وتتجلى فيه السمات وتحمله ساحة يتلاشى على صعيدها الزمان والمكان ...إنه تدخل القوة العظمى للفصل بين الرسل وقومهم : ( فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد .....) .

ثم تتابع السورة في جرسها اللفظي وإيقاعها المعنوي الآخذ من التصوير ميدانا لتقصي المحاور لتبث حوار الشيطان والجميع ( وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ......) ليرد الذين استكبروا على سؤال الضعفاء : ( لوهدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا مالنا من محيص ) ، كان ردهم قبل وسوسة الشيطان لهم وصدهم عن استماع الدعوة ووخزه لهم بتعييرهم بالاستجابة له حتى انقادوا إلى دعوته الباطلة وتركوا دعوة الحق التي أنبهم على تركها ( وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ...) لن ينجدوه إذاصرخ وهم كذلك ، ثم ينهي خطبته الشيطانية بالقاصمة يقصم بها أولياءه ( إن الظالمين لهم عذاب أليم ) .

بعدها تعود الريشة " الظلالية " لتقدم في نهاية السورة لمستها التدبرية الأخيرة بعد جولة في مشهد الأنوار وكون معرضه وفير بالآلاء ، نموذجه الإنساني الكامل أبو الأنبياء خليل الله إبراهيم عليه السلام ، الذي يظلل سمته هذه السورة في مقام يطبعه الخشوع وتشيع فيه الضراعة ويتجاوب فيه الدعاء ، في نغمة متموجة في ذهابها إلى السماء : ( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام...........) ويبدوا في دعوة إبراهيم الثانية تسليمه المطلق إلى ربه والتجاؤه إليه في أخص مشاعر قلبه ...وفي نهاية المطاف يتشكل المقطع في سياق السورة ليتحدث عن طبيعة الكتاب والمكذبين المشركين به من جديد ، وليهددهم بيوم يتمنون فيه لوكانوا مسلمين ، وليذكرهم بأن الملائكة تنزل فيه مصحوبة بالهلاك والتدمير ....( هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألبب ) .

هذا بلاغ قيل في التفسير *** كفاية للناس في التذكير

وهذه الآية عنوان الكتاب *** كتابنا الحكيم أشرف كتاب .

تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وتضاعف لنا ولكم الأجر .

6. مايو 2020 - 10:34

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا