قال الله تعالى: { كتاب أنزلنه إليك مبارك ليدبروا آياته } وقال تعالى: { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } وقال جل جلاله: { أفلم يدبروا القول }
بين الله تعالى أن هذا الكتاب المبارك أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم لنتدبره حتى نفهم ونعقل ما خاطبنا به ربنا؛
ولو أن أحدنا أتته رسالة من عظيم عنده لسعى في فهم مراده، ولو عجز عنه لذهب إلى من يشرحها له، ولو كانت بغير لغته لبحث عن مترجم لها، لاسيما إذا تعلق بهذه الرسالة مصيره أو كانت تعني له أمرا عظيما.
وهل هناك عظيم أعظم من المولى الحق جل جلاله!!
أم هنالك رسالة أنفع من كتابه المبارك؟ فلِم يزهد الكثيرون منا في تدبره ؟ ولم يصدفون عنه ويحرمون أنفسهم من بركاته وخيره.
والتدبر مشتق من الدابر وهو الآخر من كل شيء ومن ذلك قول الله تعالى {فقطع دابر القوم الذين ظلموا } أي آخرهم
فالتدبر بذل آخر الطاقة الذهنية للوصول إلى آخر معنى يمكن الوصول إليه، وهو أيضأ النظر في عواقب الأمور ومآلاتها.
وهو عمل ذاتي لا يقبل النيابة فلا يمكن أن يتدبر عنك أحد من الناس. وهو من الأوزان العربية التي تفيد قدرا من البذل والعناء، كالتحمل والتصبر، والتجلد والتهجد.
وأي شكر لنعمة العقل إن لم تُبذل في فهم كلام من وهب العقل وأعقله ؟
وإن تدبر كتاب الله تعالى مفتاح العلوم والفهوم، وغذاء العقول والأرواح، وجنة الدنيا والآخرة،وهو من أجل ما يرزقه الله عبده ؛
قال علي رضي الله عنه _ حين سئل هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء _ قال ؛
" لا إلا فهما يرزقه الله عبدا من عباده وما في هذه الصحيفة "
.
وعحبي لأقوام بين يديهم كتاب من لدن حكيم عليم ضمنه الله علمه ورحمته وحكمته وغايته من خلقه ، ثم يشغلهم عنه كتاب أو كلام أي كنود هذا ؟ كتاب يقول فيه منزله جل وعلا: { وبالحق أنزلناه وبالحق نزل } { وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين }
{ وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم }
قال أهل العلم صدقا في الأخبار وعدلا في الأحكام.
{ وما تنزلت به الشيطان وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون }
{ وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين }
ألم يقرأ هؤلاء قول الله تعالى: { ذلك أمر الله أنزله إليكم } أم لم يعقلوا وصف المنزل جل وعلا نفسه الذي أورده بعد المنة بهذا المُنزًل ليُقدروه حق قدره،
تأملوا يرحمكم الله هذه الآيات
{ فاتقوا الله يأولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلوا عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور . إلى أن قال جل وعلا ... الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما }
فامتن بالرسول وبالآيات البينات التي جاء بها ثم وصف منزٍل الآيات جل وعلا بقوله :
" الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما "
فهل علمنا عمن نتلقى علم القرآن ؟ حتى لا نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير !!
لما ذا نزهد في أن يعلمنا من قد أحاط بكل شيء علما ؟ من أمره نافذ في السماوات السبع والأرضين
يدبر أمره فيها بأعلم العلم وأحكم الحكمة وأتم القدرة
رحم الله شوقي إذ يقول:
جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم
آياته كلما طال المدى جُدُدُُ
يزينهن جلال العتق والقدم
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
"إن الْفَقِيهِ حَقِّ الْفَقِيهِ: من لم يقنط الناس مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ، وَلا يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ ، وَلم يُؤْمِنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ ، ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره ، إنه لا خير في عبادة لا علم فيها ، ولا علم لا فهم فيه، ولا خير في قراءة لا تدبرفيها،
أخرجه الدارمي في سننه بسنده.
ونقل بن عن البر في التمهيد بسنده عن أبي حمزة، قال قلت لابن عباس: إني سريع القراءة؛ إني أقرأ القرآن في ثلاث؟ قال: لأن أقرأ سورة البقرة في ليلة أدًبرها وأرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله أهذُه كما تقول .
قال شيخ المفسرين الطبري رحمه الله ورفع درجته:
" عجبا لمن لم يفهم معنى القرآن كيف يتلذذ به "
قال ابن تيمية رحمه الله :
"ما رأيت شيئاً يُغذي العقل والروح، ويحفظ الجسم، ويضمن السعادة، أكثر من إدامة النظر في كتاب الله تعالى"
وقال ابن القيم: "فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن وإطالة التأمل وجمع الفكر على معاني آياته".
وهنا أنقل بعض كلام أهل التفسير على هذه الآية العظيمة
_قال الطبري رحمه:
(كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: وهذا القرآن (كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ) يا محمد (مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) يقول: ليتدبَّروا حُجَج الله التي فيه، وما شرع فيه من شرائعه، فيتعظوا ويعملوا به.
_قال الزمخشري:
{ كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ}: وتدبر الآيات التفكر فيها، والتأمل الذي يؤدى إلى معرفة ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني الحسنة، لأن من اقتنع بظاهر المتلوّ، لم يحل منه بكثير طائل، وكان مثله كمثل من له لقحة درور لا يحلبها، ومهرة نثور لا يستولدها. وعن الحسن: قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله: حفظوا حروفه وضيعوا حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: والله لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفا، وقد والله أسقطه كله، ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل، والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، والله ما هؤلاء بالحكماء ولا الوزعة،
ولا يفت عليك قوله رحمه الله ؛
"، لأن من اقتنع بظاهر المتلوّ، لم يحل منه بكثير طائل، وكان مثله كمثل من له لقحة درور لا يحلبها، ومهرة نثور لا يستولده "
_قال الإمام الرازي: {كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ}فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَتَدَبَّرْ وَلَمْ يَتَأَمَّلْ وَلَمْ يُسَاعِدْهُ التَّوْفِيقُ الْإِلَهِيُّ لَمْ يَقِفْ عَلَى هَذِهِ الْأَسْرَارِ الْعَجِيبَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، حَيْثُ يَرَاهُ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ مَقْرُونًا بِسُوءِ التَّرْتِيبِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَكْمَلِ جِهَاتِ التَّرْتِيبِ،
وما قاله الرازي رحمه الله لا يعقله إلا المتدبرون فبلسانهم نطق
_وقال الإمام ابن كثير:
وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ يُرْشِدُ إِلَى الْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ وَالْمَآخِذِ الْعَقْلِيَّةِ الصَّرِيحَةِ، قَالَ: {كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ}قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَاللَّهِ مَا تَدَبُّره بِحِفْظِ حُرُوفِهِ وَإِضَاعَةِ حُدُودِهِ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَقُولُ: قَرَأْتُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مَا يُرَى لَهُ القرآنُ فِي خُلُقٍ وَلَا عَمَلٍ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
_قال ابن باديس:
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} : فعلينا أن نحضر قلوبنا عند سماعها، ونستعمل عقولنا في فهمها، ونحمل أنفسنا على الاتعاظ بها، فإذا صدقت النية وأخلص التوجه فتح على العبد من وجوه العلم والعمل- بإذن الله- بما لم يكن له في بال.
وإن الله وصف هذا الكتاب بأنه مبارك؛ لزيادة خيراته وتيسيره للذاكرين- ترغيبا لنا في فهمه وتدبره، واستنزال الخيرات واستزادة البركات منه.
فأقبل- يا أخي- على القرآن: على استماعه وعلى تفهمه، والزم ذلك حتى يصير عادة لك وملكة فيك .. ترى من فضل الله وإقباله عليه ما يدنيك- إن شاء الله- ويعليك، ويعود بالخير الجزيل عليك."
_ وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي:
هذا الكتاب مبارك، أي: كثير البركات والخيرات، فمن تعلمه وعمل به غمرته الخيرات في الدنيا والآخرة؛ لأن ما سماه الله مباركاً فهو كثير البركات والخيرات قطعا.
وكان بعض علماء التفسير يقول: اشتغلنا بالقرآن فغمرتنا البركات والخيرات في الدنيا، تصديقا لقوله: {كتاب أنزلناه إليك مبارك}. (العذب النمير 7/1)
انتهى
إن الله تعالى يسر القرآن لفظا ومعنى، ووصفه بالآيات البينات فهو بين في نفسه مبين لغيره فلا غموض ولا تعقيد فيه فلفظه ألذ الألفاظ في الأسماع، وأسهلها على اللسان، وأيينها للعقل، وأوقعها في القلب، لكن الله تعالى جعله كتابا عزيرا يؤفك عنه من أفك أي يصرف عنه من لا يستحقه ولا يقدره حق قدره، ومن يسويه بغيره ،
ومن قرأه بتدبر عرفه بربه وبنفسه، وبالكون من حوله وشفاه وكفاه في ذلك،
ولهذا التدبر أسباب وموانع بقدر حصول أسبابه وانتقاء موانعه يحصل فلنستقل أولنستكثر وسنقف مع طرف من تلك الأسباب والموانع وشيء من حال السلف مع التدبر في المقالات الآتية إن شاء الله تعالى
على أن نقدم بين يدي ذلك وقفة مع أسماء القرآن وأوصافه ليعلم المتدبر ماذا يطلب وعن ماذا يبحث.
أعاننا الله على ذلك وعلمنا ما لم نعلم ونفعنا بما علم
يتواصل إن شاء الله تعالى ،،،،،