منذ بعض الوقت يروج استعمال كلمة النفاق والتزلف أو التّملق.. كأوصاف نطلقها بإسراف على معظم المهتمّين بالحقل السياسي، وبما أنّنا نحن المشتغلين على البحث التاريخي نؤمن بتأثير التراكم الزمني على صيّاغة المشهد الاجتماعي والثقافي وحتى السلوكي أصبح لزاما علينا محاولة توضيح ملابسات ما نعتقد أنها لحظة تأسس فيها النفاق السياسي ولا نقصد هنا ما يُعرف في أدبيات تاريخ الانتماآت السياسيّة السريّة المعروفة ب:"التقيّة"، لأن هذه الأخيرة جزء تقني عرفت به بعض التنظيمات السياسية ذات الخط المذهبي، انتهجته للوقاية من التنكيل بها من طرف النظام المناوئ، وقد استخدمه غيرها للضرورة.
أما النفاق السياسي بمفهومه الواسع فقد تميز بالتمدد الأفقي في مجتمعاتنا الإسلامية حتى كاد أن يكون –تلقائيا- هو العلاقة الأبرز بين السلطة والرعيّة، وهو إظهار الولاء للسلطة أياً كانت والتلّون بلون الحاكم، فبالعودة لفترة تأسيسيّة ومهمّة من تاريخنا الإسلامي سنجد بدايات مشجّعة على الولاء للسلطة الحاكمة، وقد لا نذهب بعيدا لكي لا ندخل في مسألة الولاء بمفهومه الديني لأن المقام لا يتسع لذلك أولا، وثانيا لأننا نريد من هذه الملحوظات أن تظل وفيّة لحقل التاريخ فقط ، على الرغم أن التاريخ بالمناهج العلمية المعاصرة لم يعد علما مستقلا بل أصبح حقل معرفي من السياسة والفقه وعلم الاجتماع..
وهنا وانطلاقا مما سبق فإننا سنضرب الدخول في مطبّات أزمة اجتماع السقيفة وكذلك حرب الصفين و حتى وقعة الجمل، فقد كفانا باحث حصيف ومتمكن مؤنة ذلك ، وفي الأمر ما يستحق علينا الكياسة المنهجية في تناول موضوع حساس واقع في خط تماس مع مشاعر جماهير غفيرة من أهل السنة والشيعة ...
وحسبنا من هذه السطور الاهتمام بنتائج تلك الأزمة وما تلاها من تحولات اجتماعية ومواقف سياسية أدّت إلى الخنوع .. ! إن تناولنا للموضوع سينحصر على نتائج الفتنة الكبرى قراءة للأزمة التي ما تزال جيناتها تعمل عملها في بنيتنا الثقافية والسياسية؛ فكان النفاق والتبعية والتملّق ..من تلك الترسبات التي بقيت شاهدة على الأزمة التي عاجلت الأمة قبل أن تتشكّل فعليّا، وقَبل أن تتأسس مناهجنا التعليمية بقرنين على الأقل أي قبل ما يعرف بمرحلة التدوين .
ففي سنة 41 هجرية عرف تاريخنا السياسي انتقال سلس للسلطة عندما تنازل الحسن بن علي لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما طواعية حيث سمي ذلك العام ب"عام الجماعة" وعلى الرغم أن بعض أهل الحجاز وخرسان والعراق لم يكونوا راضين عن ذلك التنازل إلا أن الوفود التي استقدمها معاوية لغرض موضوع توريث السلطة لابنه اليزيد قد أسست لقاعدة الطاعة على غير الرّضا سنكتفي بثلاث مما سجّل لنا ابن الأثير، وهي: إحداها للضحاك بن قيس الذي رحب بفكرة البيعة ليزيد وعدد خصاله، والثانية ليزيد بن المقنع العذريّ الذي زاد حين قال: "هذا أمير المؤمنين، وأشار إلى معاوية، فإن هلك فهذا، وأشار إلى يزيد، ومن أبى فهذا، وأشار إلى سيفه". والثالثة للأحنف بن قيس الذي بدا غير راض، لكنّه وافق تحت ثنائية السمع والطاعة، حين قال قولته المشهورة مخاطبا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه:" نخافكم إن صدقنا، ونخاف الله إن كذبنا، وإنما علينا أن نقول سمعنا وأطعنا".
وقد ترجم لنا ذلك في قولة الفرزدق للحسين رضي الله عنه:
"أمَّا الْقُلُوبُ فَمَعَكَ، وَ أَمَّا السُّيُوفُ فَمَعَ بَنِي أُمَيَّةَ، وَ النَّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ".
وقد استفحل التملق وازداد منسوبه عند الشعراء حتى قال جرير يعني الوليد:
فلا هو في الدنيا مضيّعُ نصيبَه@@ ولا عرضُ الدنيا عن الدين شاغله
وقد بالغ المتنبي حين قال في مدح كافور الإخشيديُّ:
ما زلزلت مصر من كيد أريد بها@@ وإنما رقصت من عدلكم طربا
وعندما نسير خطوات مع تاريخنا ومع نخبنا خاصة سنجد القاضي والمفكر ومؤسس علم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون في المقدمة يتبنّى التملق كنظريّة أساسية في الحصول على الامتيازات التي من أبسطها السعادة، وذلك في قوله:" إنَّ الخضوعَ والتملُّقَ من أسبابِ حصولِ الجاهِ المحصّلِ للسعادةِ والكسبِ، وإِن أكثرَ أهلِ الثروَةِ والسَعادةِ بهذا الخُلُق. ولهذا نجدُ الكثير ممن يتخلَّقُ بالترفُّعِ والشَّمَمِ، لا يحصُلُ لهم غرضٌ من الجاه، فيقتصِرونَ في التكسُّبِ على أعمالِهِم، ويصيرونَ إلى الفَقْرِ والخصاصةِ". ويخلص إلى القول:" إن التَّمَلُّق أساس للحياة السعيدة، والأداة الفضلى لتحصيل الجاه والمال!".
و نجد في ثقافتنا المحلية الحسانية مقولة" إلي ما نافق ما وافق" وقد تكون هذه المقولة من تأثيرات استطان الثقافة العربية الوافدة وتجاورها جنبا إلى جنب مع تشكُّل ثقافتنا الحسانية، كالمثل العربي :"اليد التي لم تستطع قطعها قبّلها" وبين القطع والتقبيل هوت أمة بكاملها في قاع سحيق من التبعية العمياء والتملّق المقيت...