موسم العشر الأواخر / محمدن ولد المختار الحسن

الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى وعلى آله وصحبه ومن اقتفى، وبعد:
إخواني -أخواتي 

 تتوالى نعم الله تعالى على عباده، فيغمرهم بعفوه، ويمن عليهم بمواسم الخير والرحمات بفضله، وقد حثنا ديننا الحنيف على  اغتنام تلكم المواسم بالمسارعة إلى أعمال البر والصلاح التي تدخل العبد الجنان، قال تعالى: “سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ” (الحديد:21). يتفضل ربنا على عباده بنفحات الخيرات ومواسم الطاعات، فيغتنم الصّالحون نفائسها، ويتدارك الأوّابون أواخرها.

وإن أعظم هذه المواسم العشر الأواخر من رمضان، إنها بساتين الجنان قد تزينت ،و نفحات الرحمن قد تنزّلت فحري بالغافل أن يعاجل، وبالناسي أن يتذكر وجدير بالمقصر أن يشمر. وإنها والله لنعمة كبرى أن تفضل الله علينا، ومد في أعمارنا، حتى بلغنا هذه العشر المباركة، وإن من تمام شكر هذه النعمة أن نغتنمها بالأعمال الصالحة.

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظّم هذه العشر، ويجتهد فيها اجتهادًا حتى لا يكاد يقدر عليه، يفعل ذلك وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر، فما أحرانا نحن المذنبين المفرّطين أن نقتدي به فنعرف لها فضلها، ونجتهد فيها ما لانجتهد في غيرهاو؛ لعل الله أن يدركنا برحمته، ويسعفنا بنفحة من نفحاته.

      - أيها الأخوة والأخوات

◽تأهبوا لهذه العشر بالعزم الصادق على الخير، واجعلوا هممكم مصروفة إلى حراستها لا غير؛ فإنها عشر بالبركات الوافرة قد حُفت، وبالكرامة الظاهرة قد زُفت، فأعدوا لقدومها عُدة، ◽واسألوا الله فيها التوفيق إلى أن تكملوا العدة، والحذر الحذر من التفريط والإهمال، والتكاسل فيها عن صالح الأعمال. قال تعالى: “وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا” (الإسراء:19).

ومن أولى وأرجى ما تستقبل به تلك العشر ما يلي:

أولا: إحياء الليل وطول القيام

 القيام: روى الإمام مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر، ما لا يجتهد في غيره”،  وعنها -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: “كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَه” (صحيح البخاري (1880))، وشد المأزر:  كناية عن  اعتزال النساء، ويحتمل أن يراد به الجد في العبادة، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي عشرة أيام من رمضان يدع أحداً من أهله يطيق القيام إلا أقامه ،فكان صلى الله عليه وسلم يتجه إلى حجرات نسائه آمرًا فيقول: «أيقظوا صواحب الحجر فربَّ كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة» أخرجه البخاري في صحيحه ومالك في موطئه.

 وعلى نهجه  صلى الله عليه وسلم سار الصحابة والسلف الصالحون قال تعالى: “كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يستغفرون " [الذاريات:17،18].وقال تعالى: “تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” [السجدة:16،17]. وقال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل» (رواه مسلم والترمذي والنسائي).

فما بال أقوام تمر بهم هذه الليالي المباركة، وهم عنها في غفلة معرضون، فيمضون هذه الأوقات الثمينة فيما لا ينفعهم، فيسهرون الليل كله أو معظمه يعبثون بهواتفهم وما لا نفع فيه أو تمر عليهم وهم غارقون في النوم، والله إنه الحرمان العظيم، والخسارة الفادحة، فما المحروم إلا من حرم الخير.

ثانيا: الدعاء: إنه من أجل العبادات التي ينبغي على المسلم استغلالها في هذه الليالي، فهو العبادة العظيمة التي غفل عنها كثير من الناس  ؛قال تعالى :" قل مايعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما (الفرقان :77 ) ويقول عليه الصلاةُ والسلام: (إنّ في اللّيلِ لساعةً لا يُوافقها رجلٌ مُسلم يسأل اللهَ خيرًا مِن أمرِ الدّنيا والآخرة إلاّ أعطاه إيّاه، وذلك كلَّ ليلة) رواه مسلم؛ فادع ربك وأيقن بالإجابة فالرّبّ كريم، وبُثَّ إليهِ شكواك فإنّه الرّحمن الرّحيم، وارفع إليه لأواك فهو السّميع البصير ونسمات آخر الليل مظنّة إجابة الدّعوات، قيل للنبيّ: أيّ الدعاء أسمع؟ قال: ((جوفُ اللّيل الآخِر ودُبر الصّلواتِ المكتوباتِ)) رواه الترمذيّ وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح 1231

فأكثروا من الدعاء في جوف الليل واسكبوا العبرات وتلذذوا بحلاوة المناجاة وانكسروا بين يدي ربكم واخضعوا له واسألوه من خيري الدنيا والآخرة يعطكم ما سألتموه قال تعالى: " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ"

ثالثا: تحري ليلة القدر: وهي  ليلة شرّفها الله على غيرها من الليالي، ومنّ على عباده بجزيل خيرها، ليلة أجزل فيها الإفضال والإحسان، ليلة لا تشبه ليالي الدهر،  ليلةُ العتق والمباهاة، ليلة القرب والمناجاة، ليلة نزول القرآن، ليلة الرحمة والغفران، ليلة هي أمّ الليالي، كثيرةُ البركات، عزيزة السّاعات، القليل من العمل فيها كثير، والكثير منه مضاعف، قال تعالى: “إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ” (سورة القدر) إنها ليلة القدر: ، ليلة القضاء والحكم، وليلة التدبير والأمر، وليلة الشرف والفضل . تبدأ ليلة القدر من غروب الشمس الى الفجر،وفضل ليلة القدر عظيم قال الله: ” لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ “(سورة القدر3)، وقد حسب بعض العلماء “ألف شهر” فوجدوها ثلاثًا وثمانين سنة وأربعة أشهر، فيا سعادة المجتهدين فيها، قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: ( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) متفق عليه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ” وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرمها فقدحرم، فاغتنموا هذه الليلة المباركة عباد الله،، وعظموها بالقيام وتلاوة القرآن، وأكثروا فيها من ذكر الله وسؤاله المغفرة والنجاة من النار.

-ما يقول من أدركها: فإذا أدركتكم اخوتي -اخواتي  هذه الليلة فأكثروا فيها من الدعاء والتضرع إلى رب السماء، عن عائشة رضي الله عنها قالت: «قلت يا رسول الله: أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟! قال: «قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» [رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن صحيح والحاكم وقال صحيح على شرطهما وصححه الألباني 

رابعا: الاعتكاف: وإن من آكد السنن في هذه العشر، السنة التي كان يحافظ عليها المصطفى صلى الله عليه وسلم ولم يتركها حتى مات، سنة الاعتكاف وهو: لزوم المسجد للتفرغ لطاعة الله، وهو من السنة الثابتة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: “وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ “(البقرة: 187) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، واعتكف أزواجه وأصحابه معه وبعده. وفي صحيح البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: “كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يومًا”. والمقصود بالاعتكاف: انقطاع الإنسان عن الناس ليتفرغ لطاعة الله، ويجتهد في تحصيل الثواب والأجر وإدراك ليلة القدر؛ ولذلك ينبغي للمعتكف أن يشتغل بالذكر والعبادة، ويتجنب ما لا يعنيه من حديث الدنيا.
فإن لم يتيسر الاعتكاف نظرا للظروف الحالية التي سببتها هذه الجائحة التي نسأل الله ان يرفعها عن المسلمين فليتشبه بالمعتكفين، فيكثر المكث في المسجد وقراءة القرآن، ويشهد صلاة القيام ويقطع علاقته بفضول الدنيا، ويؤجل كل ما يمكن تأجيله من الحاجات والمصالح، وليعش في خلوة بربه، ولو كان في بيته ومتجره وعمله.

         أيها الأخوة والأخوات :

تلكم بعضا من العزائم التي ينبغي أن نأخذ بها أنفسنا ونحن نتأهب لاستقبال هذه العشر المباركات ، فمن التوفيق والرشاد ونفاذ البصيرة وسداد الرأي أن يغتنم المسلم هذه الأيام الفاضلة والليالي المباركة بالتزود بالصالحات، والمسابقة إلى الخيرات، والمحافظة على العبادات من صلاة وصيام وقيام وتلاوة قرآن، وصدقة وبر وإحسان، وعطف على الفقراء والأيتام، والإكثار من الاستغفار، وإدامة ذكر الله تعالى آناء الليل وأطراف النهار، فإن ذكر الله تعالى يزكي النفوس، ويشرح الصدور، ويورث الطمأنينة في القلوب، كما قال تعالى: “أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ”
 

11. مايو 2020 - 8:04

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا