نعم، لقد كان المؤتمر الصحفي، الذي دارت كل تفاصيله بالبث المباشر على الأثيرين السمعي الإذاعي و الهوائي المرئي، على درجة عالية من الأهمية للموريتانيين بصفة خاصة و للعالم من حولنا بصفة عامة، ذلك بأنه أزال بالمطلق مكامن الغموض في قضية شدت أعصاب ساكنة قبة سياسية محلية مضطربة و كشفت على اختلاف خطاباتها المتشنجة حقائق كل النوايا و معطية بالنتيجة الشعب فرصة استثنائية لتحديد و تزكية مواقفه بشكل نهائي.
خلال هذا المؤتمر الصحفي الذي انعقد في فضاء مكشوف داخل باحة القصر الرئاسي ظهر السيد الرئيس محمد ولد عبد العزيز و هو بصحة مرضية، الأمر الذي دحض جملة و تفصيلا كل المزاعم التي أعطته للعجز البدني عن مزاولة أنشطته السامية و وضعت البعض، ممن أسرفوا في ذلك إلى حد تعريض أيمانهم للحنث، في وضعية الله أعلم بمدى إسرافها. و تكشفت الردود التي تفضل بها رئيس الجمهورية على أسئلة محاوريه الغير مقيدة - و التي لم تترك هما سياسيا داخليا و خارجيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا و حول الحوار و محاوريه و غير ذلك - عن متابعة، بل و إمساك لا لبس فيه لكل الملفات و القضايا و هموم التنمية الوطنية و العدالة الاجتماعية.
لم يغفل الرئيس و هو في حالة استرخاء و أريحية و توازن و حضور ذهني كامل سؤالا إلا و أجاب عليه بإسهاب و في إحاطة شاملة بجوانبه.
و لقد كانت الحرب "الممكنة" في منطقة "أزواد" بالقطر المالي على حدود البلد موضع أسئلة دقيقة من المحاورين استقصت الموقف منها بشقيه السياسي و العسكري و كذلك الدور المرتقب لموريتانيا في البحث عن مخرج عبر مفاوضات بناءة تحقن الدماء و تحقق السلم العادل من ناحية، أو عملي ميداني في حال اندلاع الحرب من جهة أخرى.
سئل كذلك الرئيس عن قضية السنوسي الذي اعتقل في مطار نواكشوط الدولي بجواز سفر مالي و قضى فترة من الاحتجاز في موريتانيا و قد طالبت به لمحاكمته في أكثر من بلد جهات عديدة، من ضمنها الجمهورية الليبية، فجاء الرد سياسيا بامتياز و هو لم يخل مع ذلك من حزم لا يصدر إلا عن ثقة في النفس و حفاظ على عزة الوطن.
و عن كل أوجه حالات الوضع السياسي القائم و الاستحقاقات المقبلة و واقع الإعلام في ظل تحرير الفضاء السمعي البصري و الوضع الاجتماعي و حقوق الإنسان و العدالة الاجتماعية و استغلال مقدرات البلد المتنوعة و الكثيرة و كيفية الحفاظ عليها و توزيعها بعدالة بين كل ولايات الوطن لفائدة كل مواطنيه و على رأسهم المشكلين للفئات المحرومة و الفقيرة و المهمشة، فقد كانت الإجابات تتبع نسق المنطقية العملية التي تأخذ بعين الاعتبار التأكيد على ما يصاحب ذلك من مكافحة للخلفيات و الأوضاع غير صحيحة و أسبابها الكثيرة و التي يتطلب اجتثاثها نهائيا وقتا حزما و جهدا و صبرا.
و مما لا شك فيه أن كل الأسئلة التي وردت من الصحفيين الذين أنعشوا الحوار كانت في مجملها معبرة بشكل مرضي عما هو رابض في نفوس و حاضر في أذهان و قائم على ألسن المواطنين و السياسيين و المهتمين بالشأن الموريتاني في داخل البلد و على المستوى الإقليمي و العربي و الدولي من تساؤلات مشروعة و أخرى تحريضية و استفزازية لأمور و مآرب تحملها بعض النفوس.
هذا قد و أثبت الرئيس محمد ولد عبد العزيز من خلال تناوله الردود على الأسئلة التي تعلقت بمحاور أداء الحكومة و سير العمل الذي ظلت تضطلع به في سياق إنجاز برنامجه الانتخابي، أنه ظل حاضرا و لم تغب عنه لحظة و هو في فترة العلاج و النقاهة مجريات العمل الحكومي يصدر توجيهاته لها عند اللزوم و حين الضرورات لضمان مسارات التنفيذ و التصحيح وفق المقتضيات و المستجدات.
و انتهى المؤتمر كما بدأ في أجواء طبعتها حرية المحاورين المطلقة - التي لم يقيدها الوضع و لا الوقت و لا "البروتوكالات" الضيقة و المقيدة على العادة - في التناول الصحفي لكل القضايا استفهاما و استقصاء و كشفا و إحاطة و استنباطا و مقاربة و مقارنة حتى أفرغت الجعبة و أشفي الغليل. و أما الرئيس الذي كان منه كل ذلك الاستعداد، فقد ظل طيلة وقت المؤتمر ثاقب الذهن، حاضر البديهة، دقيق الإجابات، أريحي التعامل منفتحا على كل أوجه الإستفهامات و الاستشكالات.
و بقدر ما شكل هذا المؤتمر الذي عقد في غمرة الاحتفاء بمناسبة العيد الثاني و الخمسين لاستقلال البلد تزكية لوضع الدولة المستقر و المتمتعة بمكانة معتبرة في حيزها الإقليمي و محيطها الدولي، فإنه شكل كذلك مصدر شك في قدرة المعارضة "الغير محاورة" على استرجاع توازن اهتز و تصدع ثم اختل بشكل لا تخطئه عين و لا ينكره أي مهتم بالشأن الوطني أو محلل سياسي تقع موريتانيا ضمن دائرة اهتماماته.
و أما الأغلبية بكل تشكيلاتها و على رأسها حزب الإتحاد من أجل الجمهورية فإنها اعتبرت هذه العودة الميمونة لرئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز معافى و مباشرته الفورية لمهامه السامية واستمرارا في إنجاز وعوده الانتخابية - الهادفة إلى إرساء دعائم "موريتانيا جديدة" ديمقراطية موحدة مستقرة و مزدهرة - فتحا يضاهي، في قوته فتح أبواب "عمورية" على يد "المعتصم" بعدما حاول الروم ثنيه عن عزمه بأقوال السحرة و المشعوذين بأن "عمورية" لا تفتح إلا في موسم التين و العنب ربحا للوقت، إلا انه مضى لتأديبهم و قد حضر الشاعر أبو تمام المعركة فوصف مراحلها في قصيدته التي تعتبر من القصائد الملحمية الرائعة التي تخلد النخوة و الشهامة و القوة و الإرادة و العزيمة و مطلعها:
السّـَيْـفُ أَصْدَقُ أَنْبَـاءً مِـنَ الـكُتُبِ في حدهِ الحدُّ بينَ الـجدِّ و اللَّعبِ بيضُ الصَّفائحِ لاَ سودُ الصَّحائفِ في مُتُونِهنَّ جلاءُ الشَّك والريَبِ
.. فكان الحصاد انتصارا باهرا كسر أنف الروم.