من المعلوم أن حصول التدبر بحسب توفر أسبابه وانتقاء موانعه ولذلك سيكون هذا المقال والذي بعده في أسباب التدبر ثم نكتب في موانعه نسأل الله أن ييسر لنا أسباب الخير كله ويمنع موانعه، فهو وحده المؤمل، وعليه المعول ،
1 – السبب الأول :
حسن التلاوة والإكثار منها فإنه ما هدى إلى القرآن مثل القرآن، ولا علم القرآن مثل القرآن؛
وقد وصفه الله تعالى بأنه كتاب متشابه يشبه بعضه بعضا، ووصفه بأنه مثاني { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني } تثنى فيه القصص والأحكام، والأخبار، وتكرر مرة ومرات، فهو تكرار لا حشو فيه، بل يكرر المجمل مفصلا، والمشكل مبينا، والمختصر مبسوطا، والمطلق مقيدا، والمعمم مخصصا، وقد نبه العلماء أن أفضل التفسير تفسير القرآن بالقرآن فلا أعلم بكلام الله من الله. وألف في ذلك العلامة آب اخطور أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن وأتى بما لم يسبق إليه رحمه الله تعالى وشاع في هذا الزمن التفسير الموضوعي رغم أنه ليس جديدا
وإيضاح ذلك أن الإكثار من التلاوة يعين على التدبر من وجهين تتفرع عنهما وجوه كثيرة :
أ) – الوجه المنهجي:
يتعود التالي المكثر للقراءة على طرائق القرآن في البيان، وأساليبه المتنوعة في الإفهام، العظيمة الإحكام،
فللقرآن خصوصيته في كل شيء ولألفاظه وتراكيبه ميزتهما العظيمة؛ وكثرة التلاوة تعود الإنسان على تلك الخصائص والمميزات، سواء استطاع التعبير عنها أو لم يستطع؛
وما يكتبه علماء البلاغة والبيان من ذلك يكون كله وزيادة عليه لكثير من مكثري التلاوة بحسب ما منحهم الله من مؤهلات وما يهبهم من هبات،
ومع الوقت يظهر أثر لغة القرآن وحكمته على عقولهم وألسنتهم؛ وإذا كان الإنسان يتعلم لغة بلد أو مجتمع ما من كثرة العيش معه، فيصبغ بصبغة تلك اللغة، وتظهر عليه خصائصها الإيجابية والسلبية، ويتطور عقله وإدراكه بحسب عمق تلك اللغة ومواهب أهلها العقلية والخلقية،
فكيف بمن صحب القرآن آناء الليل وأطراف النهار، وما يخفى من ذلك من بركات القرآن أعظم وأعظم وفي أحيان كثيرة يرى أهل القرآن في أنفسهم ويرى غيرهم فيهم من تلك البركات ما لا يعلم الجميع من أين أتى ولا كيف أتى { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم }
وهذا الوجه أقرب إلى المنهج منه إلى التفصيل
وقد ألفت كتب كثيرة في هذا المجال ولا يزال وسيظل غنيا ثريا ولعل الله ييسر فيه مقالات مستقله فإنه ماتع نافع، ولكن الطريق السالك والسبيل اللاحب إلى ذلك هو التلاوة والتلاوة والتلاوة على نحو ما مضى من إحسان ومراعاة الآداب
ب)– الوجه التفصيلي:
وهو الذي يتكلم عنه الناس كثيرا وهو بيان معاني القرآن بجمع محال ورودها، وضم زيادة تلك المواضع بعضها إلى بعض لتكتمل الصورة ويتم المعنى، وهذا كثير جدا فقصة موسى مثلا تكررت في القرآن في أكثر من أربعين سورة وهي قصة عظيمة لما اشتملت عليه من أمثلة الذين خلوا من قبلنا وموعظة المتقين، ففيها خبر الظلم والاستضعاف وبيان خبر الملوك المستكبرين وكيف يهلكون، وخبرالمستضعفين وكيف ينصرون، فيها أخبار علماء الدنيا من أحبار السوء ورهبانه ممن اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا
وقد وصفهم الله بقوله: { فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه... } { يأيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ...}
كذلك اشتملت تلك القصة على طرف من أخبارعلماء الآخرة القائمين بالحق الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر المسارعين في الخيرات المسابقين إلى المرضاة والروضات ممن وصفهم الله بقوله:
{ ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آنا الله وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين }
{ ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق }
فيها أخبار أهل المال البناءين والهدامين والمنفقين والمقترين وأخبار من فتنوا بهم واغتروا ومن نجوا وسلموا من التعلق بما عندهم وأخبار النساء الصالحات والطالحات وأخبار الفتية والصحبة ووو إلخ
وقد اشتملت قصة موسى على مرحلتين عظيمتين وعهدين جليلين مرحلة الاستضعاف في عهد فرعون ومرحلة الاستخلاف بعد هلاكه وما في كل من الدروس، والعبر، والحكم، والمواعظ؛
وقد غلب على القرآن المكي التفصيل في المرحلة الأولى: (الاستضعاف) بينما كثر الكلام عن عهد الاستخلاف في القرآن المدني والمناسبة في ذلك ظاهرة
وكان تكرار هذه القصة نموذجا لبيان القرآن ففي كل موضع يتم البسط في حلقة من حلقاتها والبيان لجانب من جوانبها على أبلغ وجه وأنفعه وأمتعه فمثلا في سورة القصص كان التركيز على ظروف نشأة موسى إلى بلوغه الأشد، وما أحاط بها من مخاوف ومخاطر نجاه الله منها بأعظم تدبير وأتم قدرة وأبلغ حكمة، وأرأف رحمة، وأعز حيلة؛ تحول المخوف إلى مأمن، والمهلكة إلى نجاة، وكان حضور النساء في هذه المرحلة كبيرا لافتا الأم الأصلية والأم المتبنية والأخت الحانية القاصة للأثر الجامعة للخبر
وكيف تُغيب عواطف النساء وحنانهن عن مرحلة كهذه إلى أن جاء دور الزوج والحماة والاصهار في مرحلة الشباب والفتوة ..
ثم تم الإجمال في المراحل الأخرى كمرحلة التشريف بالتكليم والتكليف بالرسالة ونجد من التفصيل في ذلك في الأعراف مثلا ما لا نجده في سورة القصص
وفي سورة الشعراء نجد من التفصيل في حوار فرعون وحجاجه ما لا نجده في سورة أخرى وفي سورة طه نجد من التفصيل عن السحرة ما لا نجد في غيرها وفي القرآن المدني وفي طواله خصوصا يأتي التفصيل في أخبار بني إسرائيل بعد الاستخلاف وجحودهم وكنودهم تجاه آلاء الله ونعمائه
وما أساءوا فيه من ركون إلى الدنيا وتخلف عن مقتضيات الجهاد وأمانة الاستخلاف ويكثر فيها النداء الرباني العظيم من أمثال:
{ يابني إسرائيل اذكروا نعمتي اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون } { يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين واتقوا يوما لا تجزي عن نفس شيء ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولاهم ينصرون }
وهكذا كل مواطن هذه القصة العظيمة يرسم بيانا وإيضاحا لم يوجد في غيره؛
ويتضح من ذلك أنه لا تكرار في القرآن فهذه القصة أكثر القصص ورودا وقد رأينا عدم التكرار في مواضعها فكيف بالأقل تكرارا والأندر ورودا
ويجدر التنبيه على أن بيان القرآن للقرآن يشمل المفردات فتجد اللفظ يأتي بأكثر من لغة فمن استغربه في موضع استبانه في آخر ومن أمثلة ذلك لفظ "الشهاب" "القبس" "الجذوة" ومنه أيضا لفظ "انبجست" "انفجرت" ومنه أيضا { فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا } { قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا }
ففسر كلمة أوحى في الآية الأولى بأنها الرمز والإشارة كما في الآية الثانية ولا يقتصر تفسير المفرد في القرآن على التفسير بالمرادف كما في هذه الأمثلة بل قد يكون بغيره كما فسرت الكلالة في قول الله تعالى:
{ وإن كان رجل يورث كلالة أوامراة } بقوله تعالى:
{ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس ولد وله أخت فلها نصف ما ترك }
فنص على أن الكلالة من ليس له ولد وفهم من قوله ؛ {وله أخت فلها نصف ما ترك } أنه لا والد له لأن الأخت لا ترث مع الوالد
2 – السبب الثاني:
حياة القلب فالقلب هو محل وأداة التدبر فبقدر حياته وسلامته يكون التدبر كما أنه حسب قوة أداة السمع والبصر وسلامتهما يكون السماع والإبصار قال الله تعالى:
{ إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لتنذر من كان حيا } أي حي القلب غير ميت ولا قاس وقال { إنك في ذلك لذكرى لمن له قلب } أي حي وبقدر حياة القلب وجلاء بصيرته يكون التدبر والفهم عن الله تعالى وهذا يقتضي من المؤمن الاهتمام بالقلب والعناية به وبما يحييه والحماية له مما يميته ويقسيه من أنواع الحجب الكثيرة
ولا حياة للقلب إلا بالإيمان الصحيح والمعرفة الصادقة والاستجابة التامة لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى:
{ أومن كان ميتا فأحيينه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها }
{ يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم }
ومن أعظم أسباب حياة القلوب دوام التفكر وكثرة ذكر الله تعالى.
وهاتان العبادتان مرتبطتان متكاملتان فالتفكر كالتدبر في الحاجة إلى حياة القلب والذكر يحي القلب ليتفكر ويتدبر وفي الحديث عن أبي موسى الأشعري رضي الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت " رواه البخاري وخاصة الحي الإدراك وعكسه الميت ثم يزداد القلب حياة بالتفكر في آيات الله المنظورة والتدبر في آياته المسطورة
قال ابن القيِّم - رحمه الله - في "الوابل الصيِّب" عن الذكر: "أنه يُورث حياة القلب، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟!".
و قال ابن القيِّم - رحمه الله - في "الوابل الصيِّب" أيضًا: "إن في القلب قسوةً لا يذيبها إلا ذكر الله تعالى، فينبغي للعبد أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله تعالى، وذكر حماد بن زيد عن المُعلَّى بن زياد أن رجلاً قال للحسن: يا أبا سعيد، أشكو إليك قسوة قلبي، قال: أذِبْه بالذِّكر" انتهى كلام ابن القيم رحمه الله
وكثيرا ما يجمع القرآن بين الذكر والتفكر قال الله تعالى:
{ إن في خلق السموات والأرض واختلاف اليل والنهار لآيات لأولى الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار } وقال: { يأيها الناس آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا }
وذلك أن الذكر يحي القلب فيتفكر في المخلوقات ويعرف بها خالقها فيذكره جل وعلا برؤيتها فيأمره الله بترجمة ذلك الذكر بتسبيح اللسان وحمده ولذلك أمرنا بالذكر عند طلوع شمس وغروب ودلوكها وغسق اليل وطلوع الفجر في الصلاة وفي غيرها وعند غير ذلك من تصريف الملكوت لأن رؤية ذلك تذكر بالمصرف جل وعلا وكلما أدرك القلب عظمة ذلك التصريف وحكمته وإبداعه كان ذكره أعظم وأعلم وأصدق وترجم ذلك بقوله
{ ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار } وسيأتي مزيد بيان لهذا في الكلام عن موانع التدبر إن شاء الله تعالى.
والخلاصة أن من يريد التدبر فعليه المبالغة في رعاية وحماية القلب الذي هو أداة التدبر.
3 – السبب الثالث
الإقبال التام بحضور السمع والقلب والتفرغ لاستقبال معاني القرآن والتفاعل مع آياته على نحو قول الله تعالى: { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد }
ولابن القيم رحمه الله تعالى تعليق منير على هذه الآية أنقله هنا: قَالَ تَعَالَى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد}
وَذَلِكَ أَن تَمام التَّأْثِير لمّا كَانَ مَوْقُوفا على مُؤثر مُقْتَض وَمحل قَابل وَشرط لحُصُول الْأَثر وَانْتِفَاء الْمَانِع الَّذِي يمْنَع مِنْهُ تضمّنت الْآيَة بَيَان ذَلِك كلّه بأوجز لفظ وأبينه وأدلّه على المُرَاد فَقَوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى} اشار إِلَى مَا تقدّم من أوّل السُّورَة الى هَهُنَا وَهَذَا هُوَ المؤثّر وَقَوله {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} فَهَذَا هُوَ الْمحل الْقَابِل وَالْمرَاد بِهِ الْقلب الحيّ الَّذِي يعقل عَن الله كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّا} أَي حيّ الْقلب وَقَوله {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} أَي وجَّه سَمعه وأصغى حاسّة سَمعه إِلَى مَا يُقَال لَهُ وَهَذَا شَرط التأثّر بالْكلَام وَقَوله {وَهُوَ شَهِيدٌ} أَي شَاهد الْقلب حَاضر غير غَائِب قَالَ ابْن قُتَيْبَة اسْتمع كتاب الله وَهُوَ شَاهد الْقلب والفهم لَيْسَ بغافل وَلَا ساه وَهُوَ إِشَارَة إِلَى الْمَانِع من حُصُول التَّأْثِير وَهُوَ سَهْو الْقلب وغيبته عَن تعقّل مَا يُقَال لَهُ وَالنَّظَر فِيهِ وتأمّله فَإِذا حصل الْمُؤثر وَهُوَ الْقُرْآن وَالْمحل الْقَابِل وَهُوَ الْقلب الْحَيّ وَوجد الشَّرْط وَهُوَ الإصغاء وانتفى الْمَانِع وَهُوَ اشْتِغَال الْقلب وذهوله عَن معنى الْخطاب وانصرافه عَنهُ إِلَى شَيْء آخر حصل الْأَثر وَهُوَ الِانْتِفَاع والتذكّر.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا قلوبا تعقل عنه
يتواصل إن شاء الله تعالى ،،،،،