في ظلال الورد التراويحي الليلة عشنا مع " الظلال " في وقفات سورة الإسراء أو سورة بني إسرائيل ، وهي إحدى السور المكية التي استهلت بالتسبيح واختتمت بالحمد ، لأنها تتحدث عن حدث عظيم وخارق للعادة ، رحلة الإسراء والمعراج التي استقبلها كفار مكة بالتكذيب والتشكيك كعادتهم ، وذلك قبل أن يرد القرءان الكريم على سؤالهم الذي ينم عن سذاجة وضيق في العقول وسطحية في التفكير ، إذ أنهم قالوا في حوارهم " التشكيكي " مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه : أتصدقه _ يعنون النبي صلى الله عليه وسلم _ أن يأتي في الشام في ليلة واحدة ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح ؟؟ فما كان من أبي بكر إلا أن قال نعم ، أنا أصدقه بأبعد من ذلك ، أصدقه بخبر السماء فسمي صديقا .
وقصة الإسراء من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس والمعراج من بيت المقدس إلى السماوات العلى وسدرة المنتهى ، ومن ثم العالم الغيبي المجهول بالنسبة لنا ...هذه القصة جاءت فيها روايات شتى ، ودار حولها كثير من الجدل ، إذ اختلف في المكان الذي أسري منه بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وأظهر الأقوال أنه المسجد الحرام ، لظاهر الآية ولحديث أبي سعيد قَالَ : حَدَّثَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللُّهُ عَلَيُهِ وَسَلَّمَ ، عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللُّهُ عَلَيُهِ وَسَلَّمَ : " أُتِيتُ بِدَابَّةٍ هِيَ أَشْبَهُ الدَّوَابِّ بِالْبَغْلِ ، لَهُ أُذُنَانِ مُضْطَرِبَتَانِ , وَهُوَ الْبُرَاقُ الَّذِي كَانَتْ تَرْكَبُهُ الأَنْبِيَاءُ قَبْلِي , فَرَكِبْتُهُ فَانْطَلَقَ تَقَعُ يَدُهُ عِنْدَ مُنْتَهَى بَصَرِهِ , فَسَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ يَمِينِي يَا مُحَمَّدُ عَلَى رِسْلِكَ أَسْأَلُكَ , فَمَضَيْتُ فَلَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهِ , ثُمَّ سَمِعْتُ نِدَاءً , عَنْ شِمَالِي يَا مُحَمَّدُ عَلَى رِسْلِكَ أَسْأَلُكُ , فَمَضَيْتُ وَلَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهِ , ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْنِي امْرَأَةٌ عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ زِينَةِ الدُّنْيَا رَافِعَةً يَدَهَا ، تَقُولُ : عَلَى رِسْلِكَ أَسْأَلُكُ , فَمَضَيْتُ وَلَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهَا , ثُمَّ أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ , أَوْ قَالَ الْمَسْجِدَ الأَقْصَى , فَنَزَلْتُ عَنِ الدَّابَّةِ ، فَأَوْثَقْتُهَا بِالْحَلْقَةِ الَّتِي كَانَتِ الأَنْبِيَاءُ تُوثِقُ بِهَا , ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ : مَا رَأَيْتَ فِي وَجْهِكَ ؟ , فَقُلْتُ : سَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ يَمِينِي ، أَنْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى رِسْلِكَ أَسْأَلُكَ , فَمَضَيْتُ وَلَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهِ , قَالَ : ذَاكَ دَاعِي الْيَهُودِ , أَمَا إِنَّكَ لَوْ وَقَفْتَ عَلَيْهِ تَهَوَّدَتْ أُمَّتُكَ , قَالَ : ثُمَّ سَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ يَسَارِي ، أَنْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى رِسْلِكَ ، فَمَضَيْتُ وَلَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهِ , قَالَ : ذَلِكَ دَاعِي النَّصَارَى ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ وَقَفْتَ عَلَيْهِ لَتَنَصَّرَتْ أُمَّتُكَ , ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْنِي امْرَأَةٌ عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ زِينَةِ الدُّنْيَا رَافِعَةً يَدَيْهَا ، تَقُولُ : عَلَى رِسْلِكَ يَا مُحَمَّدُ أَسْأَلُكَ , فَمَضَيْتُ وَلَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهَا , قَالَ : تِلْكَ الدُّنْيَا تَزَيَّنَتْ لَكَ ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ وَقَفْتَ عَلَيْهَا ، اخْتَارَتْ أُمَّتُكَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ , ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ , أَحَدُهُمَا فِيهِ لَبَنٌ ، وَالآخَرُ فِيهِ خَمْرٌ , فَقِيلَ لِي : اشْرَبْ أَيَّهُمَا , فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ , فَقَالَ : أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ ، أَوْ أَخَذْتَ الْفِطْرَةَ " ( 1 ) .
فالإسراء كان حقيقة تمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بروحه وجسده من منزل أم هانئ بنت أبي طالب بمكة ، وكأن الحق سبحانه ادخر الموقف التكذيبي لمكذبي الأمس ليرد به على مكذبي اليوم ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام ) ... والسؤال المطروح لماذا اختار الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم صفة العبودية بالذات ؟؟ يجيب المفسرون أن الله تعالى جعل في الكون قانونا عاما للناس ، وقد يخرق هذا القانون أو الناموس العام ليكون معجزة للخاصة الذين ميزهم الله عن سائر الخلق فكأن كلمة " عبده " هي حيثية الإسراء ، لأن صدقية العبودية لله والإسراء والمعراج عطاء من الله استحقه رسوله بما حققه من عبودية :
ومما زادني شرفا وتيها *** وجدت بأخمصي أن أطأ الثر يا
دخولي تحت قولك يا عبادي *** وأن صيرت أحمد لي نبيا ( صلى الله عليه وسلم ) .
كان العنصر البارز في كيان السورة التي ضمت موضوعات شتى معظمها عن العقيدة وبعضها عن قواعد السلوك الفرعي والجماعي إضافة إلى شيء من القصص عن بني إسرائيل يتعلق بالمسجد الأقصى وطرف من قصة آدم عليه السلام وإبليس لعنه الله وتكريم الله للإنسان ، كان المحور الأصيل هو شخص الرسول صلى الله عليه وسلم وموقف القوم منه في مكة . حيث يبدأ مطلعها بتنزيه الله وتسبيحه وشكر آلائه ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى باركنا حوله ) مع الكشف عن حكمة الإسراء ( لنريه من آياتنا ) ... وبمناسبة المسجد الأقصى تذكر السورة كتاب موسى وما قضى فيه لبني إسرائيل من نكبة بسبب طغيانهم وإفسادهم مع إنذارهم بالمحاولة الثالثة والرابعة ( وإن عدتم عدنا ) تقريرا أن القرءان الكريم هو الذي يهدي للتي هي أقوم ، ليأتي الشوط الرابع في السورة بطرف من قصة إبليس وإعلانه أنه سيكون حربا على ذرية آدم ، وتعقيب القرءان الكريم على ذلك بتخويف البشر من عذاب الله وما ينتظر الطائعين والعصاة يوم ندعو كل أناس بإمامهم : ( فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ) . ويستعرض الشوط الأخير من سياق السورة كيد المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم ومحاولة فتنته عن بعض ما أنزل إليه ومحاولة إخراجه من مكة ، وأنهم لوأخرجوه قسرا ولم يخرج هو مهاجرا بأمر الله لحل بهم الهلاك الذي حل بالأمم قبلهم ، لتنتهي السورة بالحديث عن القرءان الكريم وإعجازه ، بينما هم يطلبون خوارق مادية ، ونزول الملائكة وأن يكون له بيت من زخرف أوجنة من نخيل وعنب يفجر الأنهار خلالها تفجيرا ...إلى غير ذلك من المقترحات التي يمليها العنت والمكابرة ، لا طلب الهدى والاقتناع ، ليرد عليهم القرءان الكريم بأن هذا كله خارج عن وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم وطبيعة الرسالة ، ويكل الأمر إلى الله لأن ما منعهم أن يؤمنوا إلا اعتراضهم على بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم :
إن قلت قد حصر مانع الهدى *** في غير ما في سورة الكهف بدا
قلت هنا في سبب وما هناك *** مسبب فما تنافيا لذاك .
تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وضاعف لنا ولكم الأجر ، ودفع عن بلادنا الوباء وعن سائر بلدان المسلمين إنه سميع مجيب .