قال تعالى وهو أصدق القائلين :(وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبيس المهاد ) [1]صدق الله العظيم
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: " بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ " , إذْ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ , " فَمَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحَدِّثُ "، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ , فَكَرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ " حَتَّى إِذَا قَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثَهُ قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟ " , قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ , قَالَ: " إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ " , قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا ؟ , قَالَ: إِذَا وُسِّدَ الَأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ[2]
دعونا نلقي نظرة ونأخذ فكرة عن حجم تلك الكارثة،وشكل ذلك الدمار،ومقدار ذلك الخراب ،عندما يولَّى الخؤون مكان الأمين. ويُعينُ الأشرار مكان الأخيار ، ويكذَّبُ الأمين ويُصدَّقُ الكاذب ويقرَّبُ السارق، ويُبعدُ الصادق،فانتبهوا إننا بذلك نشجع الخيانة ونطرد الأمانة، ونشرع أبواب الفساد،ونمد جسور الخراب،ونفتح نوافذ على الدمار ،فيحصل الانهيار،فتطرد النزاهة، وتشنق العدالة، وتهان الكرامة، فتصاب الدولة بالنكبة،ويكبل البلد بالصدمة. فماذا يحصل إذا وُكل الأمرُ إلى غير أهله؟
إذا وُضِعَ المفسدون على الموارد التي لا تنضب، أصابوها بالعطب، وأرهقوا كاهلها بالنهب، على حد قول بعضهم هنتت وسرق وبكى ورشى وارتشى، وأعطى وأكدى، عطاء من لا يملك لمن لا يستحق، ولوا كان مِلكه لما أعطى منه قشرة، ولما ناول منه حبة،ولكان عليه أحرصَ، ولحفظه أحوطَ، ولكن بما أنها شاة بفيفاء، لك أو لأخيك أو للذيب،دَولةٌ تبددُ أموالها وتنهب خيراتها،مالها مشاع بين الأغنياء، متاح للأثرياء يبطش به أبناؤهم،و تتجِرُ به نساؤهم،وتقام به حفلاتهم وتُحيا به سهراتهم. وتُداوى به عِلَّاتُهم، ويُقضى به حاجُهم،ويرصَّع به تاجهم،وتُرفَّهُ به أسرهم،وتُسرجُ به حُمُرهم، وتشرى به العقارات وتبنى به العمارات،وتنشأ به الفللُ، وتنمى منه الإبلُ،وتفتح منه المصانع،وتوضع منه المقالع،على حساب الفقير الجائع،والمدرس القانع،والممرض البعيد والجندي المجيد. بلا خوف ولا خشية،لا يراعون في الفقير إلى ولا ذمة،ولا عهدا ولا مِنة،أرضٌ لا بواكي لخيراتها، ولا راد عن حلالها.ولا مخاصم عن مواردها، ولا مدافع عن منافعها .
إذا جُعل المفسد في مجال محدد،وقطاع معين، جعله شذر مذر،يبطش فيه بطش عاد و إرم، ويجعله نعمة من النعم،ونسمة من النَّسم، يسددُ من خلاله لكماته للخصوم وحملاته في التخوم،ويعطي من خلاله لأحبته وأهل بيته ،كأنه مكرمة نالها من أبيه أو جده،
إذا جُعل المفسد في مجال الصيد يخرج من كل عهدة و قيد،ويصبح تفكيره البواخرنوما يجري في تلك المواخر وهو جالس في مكتبه ومعتدل على مقعده يفكر في الصفقات وما سيبقى من الميزانيات،فساء قعله،وشان عمله وباع دينه ووطنه.لا يستمع أبدا إلا لبطنه ونهمه،وإذا تكلمت لغة البطن تعطلت الأذن،والسلام على الوطن السلام فقد اتخذت الأمانة مغنما صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم .
المفسد إذا جُعل على البترول يتحول مباشرة إلى غول، في أنماط من الفساد سادي،لا تعرف منها الغوادي والعوادي، يبيع المصافي ويورد في المرافي، وينخرط في شراء الأسهم ويدخل ذلك القُم،يتصرف وكأنه خارج الأضواء،لا تصيبه الغلواء، ولا يناله العناء، و لا يَطرُفُ بالُه القضاء، لا تسلط التساؤلات على أفعاله، ولا على مصادر أمواله،
المفسد إذا وُضع على خزائن الأرض فإنه ينزع منها الغرض، ويجعلها سيفا مسلطا على الأعداء وحبلا في رقبة الأرقاء، ومع ما يجمعه وما يكدسه،من مال وعقار،الله وحده أعلم كيف حصله وبأي حيلة ترصده ،يمتلك ببجاهه وماله،رقاب جيشٍ من الإمعات ورتلٍ من الببغوات، الذين لا يعرفون لكلمة الحق سبيلا،ولا يجدون عن الباطل محيلا، لا ينصحون ولا بمعروف يأمرون، لهم وجوه من حديد،ورأي بليد،فينتقل فساده من أموال الدولة،إلى عقول الأمة، فيوسخهم ويورطهم في نقل الأخبار وتسجيلها،وبسطها وتعليبها،يندسون بين الوفود،ويتكورون بين الحشود،ذباب نجس لا يقعون إلا موضع الألم،يدخلون بين المرء وزوجه وبين الرجل وقريبه،ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الخاسرون. سلكوا إلى سيدهم طريق اللحلحة، فسلك بهم طريق الجوسسة،بعد أن كونهم على مراده وهداهم إلى صراطه.
المفسدون الصغار أتباع التجار الكبار،أصدقاء المقاولين والموردين ،أصحاب المؤسسات الكبيرة، والصغيرة،هؤلاء عندهم شياطينهم ولهم طواحينهم، هم كواكب صغار، تسير في مدار الكبار ،تبرمج ذكاءها في الاختلاس، بالمساحة والمقاس،وحسب الجِرْم الذي أمامها والمساحة التي يتركها لها... والمسئول الصغير جمَّاعٌ عاقل، وهذا شأنه في الغالب، لا يفوته مراعاة حجمه، وقياس كيفية هروبه،إذا جاءت لحظة غروبه،خوفا من أن يبتلع ما يوجه إليه الأنظار، ويكشفه أمام الكبار، فهو محترف يراعي مكانته، ولا يتعجل نهايته، قبل إكمال غايته، ولكنه دائما على مهل،وحذر في تسلق ذلك الجبل، فالنفق صغير والحِملُ كبير ، يسرِقُ بخلسة، ويخطِفُ بخفة، لا تظهر أفعاله، ولا تكشف أعماله، ولا يوقف عليه، ولا يقبض عليه وتستمر هذه الدوامة،وتدوم تلك الغرامة،حتى يَكْسَحَ الإدارة،وينهي الوزارة، فيُعلَنُ عن إفلاسها وانتكاسها، والسبب مجهول، لمن قام بالغلول، لأنه قبل أن يسرِقَها، وقبل أن يشنِقَها، يحرِقُ الأوراق التي تُدينُه،والمستندات التي تُبِينُه، فيُعلنُ دائما أن الإدارة كذا، وقع فيها حريق يوم كذا، والوزارة المحددة، فعلت نفس الجلبة،فقد احترق جزء منها، وسرق معدِنُها، وما حرقها إلا من سرقها، فلا يُحقق في الموضوع، أفلا تنتبهون،أم أنكم متواطئون!؟فلا يحقق في الموضوع،ولا يكشف ذلك العقوق .
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم،
[1] سورة البقرة الآية 205
صحيح البخاري ج 1 ص 21[2]