يذكر أهل السير أن مما سأل عنه النجاشي جعفر رسول ر سول الله صلى الله عليه وسلم قوله : هل معك مما جاء به عن الله شيء ؟ قال جعفر : نعم ، فقال له النجاشي اقرأه علي . قال فقرأ " كهيعص " فبكى النجاشي حتى ابتلت لحيته ، وبكت أساقفتهم حتى أخضلوا لحاهم حين سمعوا ما يتلى عليهم ، فقال النجاشي : إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة . وهذا ما يدور حوله محور العقيدة في السورة وموضوعها الأساسي الذي تعالجه ، شأنها في ذلك شأن أغلبية السور المكية ، وإن كانت مادة القصص أخذت هي الأخرى جزءا من السورة تمثل في قصة زكريا واقترانها بذكر الله ومشهد دعائي تظلله وتتقدمه رحمة الله التي رحم بها عبده زكريا حين تضرع إليه و ناداه نداء خفيا ( قال رب إني وهن العظم مني واشتغل الرأس شيبا ) ، نداء بلا واسطة ولا حتى حرف نداء ، وذلك أنه دعاه في سر وخفية مما يستفاد منه أن إخفاء الدعاء أفضل من إظهاره وإعلانه ، لأن الإخفاء أقرب إلى الإخلاص وأبعد من الرياء .
ثم تأتي قصة مريم التي_ تسمت السورة باسمها _ ومولد عيسى في تدرج للسياق من القصة الأولى التي ولدت فيها العاقر وقد بلغ بعلها من الكبر عتيا ، إلى قصة وجه العجب فيها ولادة العذراء من دون بعل! إذ يعطينا هذا المشهد حادثة ظلت بارزة في سجل الحياة الإنسانية تترجم حرية قدرة الله وطلاقة إرادته سبحانه و تعالى في جعل عدم احتباس ولادة مولود من غير أب داخل حدود النواميس المثيرة بالعواطف والانفعالات التي تهز من يقرؤ السورة كأنه شاهد عيان ( ولنجعله آية للناس ) (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذتم من دونهم حجابا........ ) . بذلك انتهى الحوار بين الروح الأمين " جبريل عليه السلام " ومريم العذراء ...ويترك السياق فجوة من فجوات العرض الفني للقصة لم نعرف بسببها ماذا كان بعد هذا الحوار ؟؟ من هنا بدأ الإيقاع الموسيقي للسورة يتنوع بتنوع الجو والموضوع ، وبدأت القافية تسير في اتجاه التعقيب والتقرير لحقيقة وانتهاء قصة ميلاد عيسى والفصل في بنوته ( ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ، ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) . وبوقفة الظلال الليلة نكون قد وصلنا بحمد الله وتوفيقه لنصف القرءان الكريم في وقفات الظلال هذه ، وتلك نعمة من الله نشكرها .
في ظلال التراويح الليلة شرعت سورة العذراء مريم عليها السلام بعد الشوط الأول في تقديم حلقة من طرف قصة إبراهيم وأبيه تكشف عما في عقيدة الشرك من نكارة وضلال في عودة للسياق والقافية الرخيمة المديدة إلى القصص بعد الفصل والتقرير ( واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيئا ...) حيث تبدو شخصية إبراهيم عليه السلام ووداعته وحلمه في ألفاظه وتعبيراته التي يقص القرءان ترجمتها باللغة العربية ، وفي تصرفاته ومواجهته للجهالة من أبيه لغير صلبه " آزر " الذي دعاه إلى الخير بلطف وتحبب ( يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ) . كل ذلك رغبة له في الهداية وإعلاما له بأنه إنما يدعوه بما لم يأته من العلم ، ولا غضاضة في أن يتبع الوالد ولده إذا كان الولد على اتصال بمصدر أعلى ( يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا ) . وقد عوض الله إبراهيم عن والده وزمرته المشركين ذرية صالحة لما اعتزل أباه وقومه وعبادتهم وآلهتهم وهجر أهله ودياره ، وهب الله له ذرية وعوضه خيرا ( فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحق ويعقوب ..) ذرية فيها الأنبياء والصالحون ، وأناس خلفوا من بعدهم أضاعوا الشهوات واتبعوا الشهوات وانحرفوا عن الصراط الذي وضعه لهم أبوهم إبراهيم عليه السلام ، لأن حديث السورة عنه يعرض موكبا من مواكب الرسالات التي أرسلها الله نورا من السماء لهده الأرض ، ولامتداحه لقمة الأنبياء بقوله ( إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ) .
ثم يستطرد السياق طرفا من قصة موسى وهارون ( واذكر في الكتب موسى إنه مخلصا وكان رسولا نبيئا وندينه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ....) وفي نداء الله لموسى من جانب الطور الأيمن بيان لفضله وتقريبه إلى الله لدرجة أنه كلمه في صورة مناجاة لا تدرك كيفيتها ، إنما نؤمن أنها كانت ، ويبقى ظل الرحمة في جو السورة يبرز استعراض كل صفات الأنبياء وصفة صدق الوعد التي يتقاسمونها جميعا ، ولكن تبدو صفة بارزة في نبي الله إسماعيل ( واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيئا ) . وأخيرا يسدل السياق الستار على هذه الإشارات بذكر إدريس وأولئك الأنبياء ليحصل التوازن بين رعيل المؤمنين الأتقياء الوارد في السورة وبين الذين خلفوهم من مشركي العرب أو من بني إسرائيل ، وهكذا تتجلى اللمسات الأخيرة في معرض الانفعالات والمشاعر القوية في النفس البشرية وحتى في الكون الذي كنا نتصوره جمادا لاحس له ، هاهو يشارك بجرس لفظي وإيقاعات مختلفة في رسم الجو العام للسورة بسماوات وأرض وجبال غاضبة تكاد تنفطر وتنشق وتنهد من شدة الانفعال والاستنكار : ( أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ) لتنطلق كلمة التفظيع والتبشيع ( لقد جئتم شيئا إدا ) تساقون بسبب إجرامه إلى جهنم كما تساق القطعان الحيوانية بينما يقدم المؤمنون على الرحمن وفدا في كرامة وحسن استقبال ( يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ) . وفي خضم هذه المفاضلة والغضبة الكونية يصدر البيان الختامي الرهيب : ( إن كل من في السموات والأرض إلا آت الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيمة فردا ) .
بارك الله لي ولكم في القرءان العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، وتقبل منا ومنكم الصيام والقيام وتضاعف لنا ولكم الأجر .