في ورد التراويح الليلة نستمطر رحمات الظلال مع سورة مكية يحدد اسمها موضوعاتها التي تدور حول دلائل الإيمان في الأنفس البشرية والآفاق الكونية ، تجسيدا لحقيقة الإيمان كما عرضها رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم من لدن نوح إلى خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم ، وشبهات المكذبين حول هذه الحقيقة ومحاولتهم الاعتراض والوقوف في وجهها ، حتى يستنجد الرسل ويستنصروا بربهم ، فيهلك المكذبين ، وينجي المؤمنين ، في سرد أحد عروض أشواط السورة لاختلاف الناس بعد الرسل في تلك الحقيقة الواحدة التي تتحدث عن موقف المشركين من الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه الاستنكار لموقف لا مبرر له ، لتنتهي السورة بمشهد من مشاهد القيامة يلقون فيه المشركون عاقبة التكذيب ، ويؤنبون على ذلك الموقف المريب ، بتعقيب ختامي يقرر التوحيد المطلق والتوجه إلى الله بطلب الرحمة والغفران : ( فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين ) .
إنها سورة " المؤمنون " أو الإيمان بكل قضاياه ودلائله وصفاته : ( قد أفلح المؤمنون ) ، افتتاح بديع يترجم في جوامع كلمه الإخبار بفلاح المؤمنين لأن الفلاح هو الظفر بالمطلوب من عمل العامل ، ونيط بوصف الإيمان للإشارة إلى أنه السبب الأعظم في الفلاح ، فالإيمان وصف جامع للكمال لتفرع جميع الكمالات عليه ، وهو غاية كل ساع إلى عمله ، فاقتضى المقام الخطابي تعميم ما به الفلاح المطلوب ، فكأنه قيل : قد أفلح المؤمنون في كل ما رغبوا فيه . فقد روى البيهقي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لما خلق الله جنة عدن وغرس أشجارها بيده قال لها تكلمي فقالت قد أفلح المؤمنون. وفي الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي سمع لوجهه دوي كدوي النحل ، وأنزل عليه يوما فمكثنا عنده ساعة فسري عنه فاستقبل القبلة فرفع يديه وقال : ( اللهم زدنا ولا تنقصنا وأرضنا وارض عنا _ ثم قال _ أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة _ ثم قرأ_ قد أفلح المؤمنون ) . والمراد من أقام عليهن ولم يخالف ما فيهن . وهنا جعل أول وصف للمؤمنين أنهم " في صلاتهم خاشعون" لأن العبرة بالخشوع والخضوع وسكينة القلب وطمأنينته واستحضار الله الذي يقف المصلي بين يديه في مقام المراقبة والإحسان ، حتى لا ينشغل القلب بشيء غير الصلاة ، لأن الجوارح تستمد طاقتها من القلب الذي يضخ فيها تعظيم المخوف منه ، إذ الخشوع محله القلب . ولهذا الاعتبار قدم وصف الخشوع في السورة على بقية أوصاف المؤمنين وجعل مواليا للإيمان حيث حصل الثناء عليهم بوصفين ، كما أن تقديم في صلاتهم على خاشعون يدل على الاهتمام بالصلاة والإيذان بأن لهم تعلقا شديدا بالصلاة ، لأن شأن الإضافة أن تفيد شدة الاتصال بين المضاف والمضاف إليه :
ألا في الصلاة الخير والفضل أجمع *** لأن بها الآراب لله تخضع
وأول فرض من شريعة ديننا *** وآخر مايبقى إذا الدين يرفع
فمن قام للتكبير لاقنه رحمة *** وكان كعبد باب مولاه يقرع
وصار لرب العرش حين صلاته *** نجيا فيا طوباه لوكان يخشع .
بعد تبيين صفات المؤمنين الذين كتب لهم الفلاح في الدنيا والآخرة ، فلاح الفرد والجماعة المؤمنة ، والثناء عليهم بدلائل الإيمان في الأنفس والآفاق ...مع تقرير كل فريق وذكر صفاته بعد آية الافتتاح ..تشرع السورة في عرض أطوار خط الحياة الإنسانية منذ نشأتها الأولى إلى نهايتها في الحياة الدنيا متوسعا في عرض مراحل الجنين مجملا في عرض المراحل الأخرى ..من الحياة البشرية إلى البعث يوم القيامة ...لينتقل السياق من الحياة الإنسانية إلى الدلائل الكونية : في خلق السماء ، وفي إنزال الماء ، وإنبات الزرع والثمار ...ثم إلى الأنعام المسخرة للإنسان مطايا على اليابسة ، والفلك المعدة للركوب في البحر ( وعليها وعلى الفلك تحملون ) . ولما كان الكلام هنا عن الفلك ناسب ذلك الحديث عمن له صلة بها وهو نوح عليه السلام: ( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه ...) وجوابهم له متحدثين عن شخصه من زاوية ضيقة صغيرة : ( ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ) وأن يجعل لنفسه منزلة فوق منزلتهم ، كأنهم في اندفاعهم هذا لا يردون فضل نوح وحده ، بل يردون فضل الإنسانية التي هم منها ، ويرفضون تكريم الله لهذا الجنس ، ويستكثرون أن يرسل الله رسولا من البشر ، وإن لابد مرسلا فليكن نبيا ( ولو شاء الله لأنزل ملائكة ) ذلك أنهم لا يجدون في أرواحهم تلك النفحة العلوية التي تصل البشر بالملإ الأعلى ، وبالتالي يحيلون الأمر إلى السوابق المألوفة لا إلى العقل المتدبر: ( ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ) .
وتختم السورة أشواطها البيانية بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه ليطلب غفرانه ورحمته ، والله خير الراحمين ( حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت ) ...إنه مشهد الاختصار ، وإعلان التوبة عند مواجهة الرحيل ...وطلب الرجعة إلى الحياة لتدارك ما فات ، والإصلاح فيما ترك وراءه من أهل ومال ...وكأنما المشهد معروض اللحظة للأنظار ، مشهود كالعيان! فالرد إذا على هذا الرجاء المتأخر لا يوجه إلى صاحب الرجاء ، إنما يعلن على رؤوس الأشهاد : ( كلا ، إنها كلمة هو قائلها ) كلمة لا معنى ، قيلت في الوقت بدل الضائع ، لا معنى لها بقدر ما هي كلمة الموقف الرهيب ، لاهي كلمة الإخلاص والعبد المنكسر المنيب ، كلمة تقال في لحظة الضيق ، ليس لها في القلب من رصيد ! وبها ينتهي مشهد الاحتضار. وإذا الحواجز قائمة بين قائل هذه الكلمة والدنيا جميعا . فلقد قضي الأمر ، وانقطعت الصلات ، وأغلقت الأبواب ، وأسدل الستار : ( ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ) . فلا هم من أهل الدنيا ، ولا هم من أهل الآخرة ، إنما هم في نقطة الوسط بينهما إلى يوم يبعثون. ثم يستطرد السياق إلى ذلك اليوم يصوره ويعرضه للأنظار : ( فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ) . إنما تقطعت الروابط ، وسقطت القيم التي كانوا يتعارفون عليها في الدنيا ( فلا أنساب بينهم يومئذ ) وشملهم النور بالصمت ، فهم ساكتون لا يتحدثون ( ولا يتساءلون ) ويعرض ميزان الحساب وعملية الوزن في سرعة واختصار وتقابل : ( فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ) .نسأل الله السلامة والعافية .
تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وتضاعف لنا ولكم الأجر ..