الكتاب الورقي وتحديات الوسائط الرقمية / أ‌. محمد الأمين ولد الكتاب

سوف نتطرق في هذه الورقة الي إشكالية التحديات التي تواجه بشكل متصاعد الكتاب الورقي و التي تتمثل أساسا في مختلف الوسائط الرقمية الآخذة في التنوع و التوسع و الفعالية. ما جعلها تستقطب اهتمام الناس على نحو مضطرد.

و سوف نتعرض في سياق هذا الحديث إلى ارتباط الكتاب كوعاء و ناقل للمعارف البشرية بالأوضاع الإ قتصادية والإجتماعية و مراحل التطور الحضاري للشعوب . و تأثيره و تاثره بتلك الأوضاع عبر التاريخ. وسنلقي بعض الإضاءات على أدوات و آليات و نواقل المعرفة الأخرى التي تولدت عن توطد وتوسع العصرنة المتأتية عن الثورة الصناعية و التكنولوجية العارمة و التطور العلمي و الإعلامي المذهل و الانفجار المعرفي المنقطع النظير الذي عرفه العالم منذ بداية القرن المنصرم، مبيننين تداعيات تلك العوامل على مكانة الكتاب الورقي و على الدور الذي ما انفك يلعبه منذ القدم كحاضنة أساسية لمختلف أنواع المعارف الإنسانية . وذلك سعيا منا إلى استشراف مصيره و استبطان مدى قدرته على البقاء و الإستمرار في استقطاب اهتمام الناس في سياق يتسم أكثر فأكثر بالسرعة و الميل إلى الاختزال و تنامي سلطان الصوت و الصورة الواقعية و الافتراضية ، و التوجه المتنامي نحو التواصل و التفاكر و التفاعل ضمن فضاء لا وجود فيه لأية حواجز أو حدود ، و لا عبرة فيه لعاملي الزمان و المكان. و هذا الفضاء هو ما بات يعرف اليوم بالقرية الكونية التي تحول إليها كوكبنا نتيجة لظاهرة العولمة و ما استتبعته من اندماج مختلف شعوب العالم في مجتمع كوني مترابط و متشابك و متواصل و ذلك على الرغم من التباعد الجغرافي و التباين الثقافي و الحضاري. و الجدير بالذكر في هذا المضمار أن لكل مرحلة من مراحل التطور الحضاري و الفكري للمجتمعات البشرية طرائق ووسائل و آليات لإنتاج المعارف و التعامل معها و تملكها و تدوينها و الحفاظ عليها كتراث مشترك يجب الحفاظ عليه عبر الزمن و توريثه للأجيال المتلاحقة. ففي المجتمعات البدائية أو الأولية كما يقولون، كانت المعارف بسيطة ونفعية. لها صلة وثيقة بالمتطلبات المعيشية اليومية و العلاقات الاجتماعية و العادات و التقاليد و الطقوس الدينية. وقبل ظهور الكتاب ، كانت المعارف المستمدة من التجارب الحياتية شفوية.و كان الحكي و السرد هما سبيلي نقل و تداول المعارف.  وفي مراحل لاحقة من تطور المجتمعات الإنسانية تم وضع و تطوير أبجديات متنوعة فظهرت مختلف أشكال الكتابة بما في ذلك الهييرغليفية في مصر القديمة و الخط المسماري عند الآشوريين و السومريين و الخط الحميري و الكتابة النبطية و الأبجديات الأخرى عند الإغريق و الرومان و الصينيين و الهنود و غيرهم من الأمم الأخرى. فبدأ تدوين المعارف و تسجيل الأفكار و تصوير التمثلات و المعتقدات التي تشكل قوام تراث الأمم ، وذلك من خلال الخط على الألواح الفخارية و النقش على الصخور و الجدران. و لما تم اكتشاف الورق أضحى الوسيلة الوحيدة لتدوين المعارف البشرية و الحفاظ عليها. وقاد ذلك في مراحل لاحقة إلى ظهور الكتاب الورقي. و مع مرور الزمن أصبح الحاضنة الوحيدة لمختلف تجليات المعارف و العلوم التي طورتها المجتمعات البشرية في كل أرجاء المعمورة. وبما أن الكتابة و القراءة كانت حكرا على نخب قليلة تهتم دون غيرها ببلورة و إنتاج و تدوين المعارف الروحية و الاجتماعية و الأدبية و الفنية و العلمية، كان عدد الكتب قليلا كونه يعتمد على الخط اليدوي و الاستنساخ الفردي لكل مصنف بعينه. بيد أن ابتكار الكتابة و ظهور الكتاب المخطوط المواكب لها لم يلغ و لم يضعف ممارسة الحكي و السرد و مختلف الطرق الشفوية الأخرى لنقل المعارف و تداولها في المجتمعات. وبعد اكتشاف الطباعة في القرن السادس عشر الذي شهد أوج النهضة الأوربية، تسارعت وتيرة نشر الكتب بأعداد متزايدة من النسخ.  وقاد التطور الفكري و العلمي خلال قرن الأنوار أي القرن الثامن عشر و ما ميزه من اكتشافات علمية و ما واكبه من نمو اقتصادي و اجتماعي و نهوض حضاري، قاد إلى طفرة هائلة في مجال نشر و توزيع الكتب ووفرتها و تنوع مواضيعها إضافة إلى ظهور الصحافة على شكل جرائد و مجلات و غير ذلك من الإصدارات المتخصصة. وفي هذا السياق كان الكتاب في مختلف أشكاله و تمظهراته هو سيد الموقف.حيث كان وبدون منازع هو وعاء المعارف و مستودع العلوم و مرجعية الباحثين الأساسية. و استمر الأمر كذلك إلى أواسط القرن المنصرم حيث ظهر إلى جانب الكتاب و الصحافة المكتوبة صحافة ناطقة تمثلت في الراديو وما أوجده من أخبار مذاعة و برامج مسموعة. كما ظهرت إلى جانب المسرح ، الذي كان إلى وقتها سيد الفنون،ظهرت السينما الصامتة ثم الناطقة و بالنتيجة تغيرت ملامح المشهد الثقافي عبر العالم المتمدن.  بيد أن ذلك لم يكن له تأثير كبير على المكانة التي كان يحتلها كل من الكتاب و الصحافة المكتوبة كنواقل ثقافية و أدوات إعلام و معرفة و توعية و تحسيس. بل تعايشت هذه الوسائط و رفدت بعضها البعض. و لما جاء التلفزيون بما يخوله من صوت و صورة متلازمين.، ساد الاعتقاد لبعض الوقت أنه سوف يزهد الناس في الصحافة المكتوبة و في الإذاعة المسموعة. إلا أن ذلك لم يحصل بل استمر الناس في قراءة الكتب وتصفح الجرائد و في الإصغاء إلى البرامج الإذاعية، و إن كان ذلك بدرجة أقل من ذي قبل، كما واصل الناس الذهاب إلى المسرح إضافة إلى ارتياد دور السينما. وفي ظل اللبرالية الاقتصادية و ما أوجدته من مجتمعات استهلاكية، اكتسح الإشهار و الترويج و الإعلانات والدعاية كافة وسائل الإعلام ووسائط الاتصال. وتعددت طرق الإغراء التي تستهدف كل القراء و المستمعين و المشاهدين للتأثير بطرق ملتوية في ميولهم و تصرفاتهم و اختياراتهم و أذواقهم ونظرتهم إلى مختلف الشؤون الحياتية. و تم تصميم برامج ترفيهية وومضات إعلانية و مشاهد تسلوية و العاب وفكاهات تشغل الناس و خاصة الأطفال و الشباب عن التأمل و القراءة، ما قلل إقبال هذه الفئات على اقتناء الكتب و مطالعتها الشيء الذي حد من نسبة القراءة عبر العالم مع اختلاف تلك النسبة من بلد إلى آخر. و في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، ظهرت الحواسيب بمختلف أنواعها و أحجامها بالتزامن مع انطلاق شبكة الأنتر نت بكل عنفوانها و كذا الطرق السريعة للإعلام و الفضائيات الإخبارية... و ذلك بفضل عشرات بل ميئات الأقمار الإصطناعية التي اكتظ بها الفضاء. و لم يكد يحل منتصف التسعينيات حتى اكتسحت المعلوماتية و الرقمنة كل المجتمعات عبر العالم. فتمت رقمنة وحوسبة كل أوجه الحياة في كل بلدان العالم و أضحى الاتصال و التواصل بين الأفراد و المؤسسات و الدول يتم عبر ما تتيحه الأنترنت من سبل و طرائق من خلال حزمة من الروابط و الأقنية و الشبكات تم تكريسها لهذه الأغراض. و استمرأ الناس ما تتيحه الشبكة العنكبوتية من سرعة وفعالية و نجاعة ، فظهر ميل متنامي إلى العدول عن وسائط الإتصال و التواصل و الإطلاع التي كانت متداولة قبل مجيء الأنترنت. و برزت نزعة قوية إلى رقمنة كل شيء .  ثم تم ابتكار وسائط رقمية قادرة على احتواء و استيعاب كم هائل من المعلومات بالصوت و الصورة. مثل أشرطة الفيديو و الأقراص المضغوطة و الفلاشات إضافة إلى الكتاب لالكتروني. فاستحدثت مواقع إلكترونية تتيح النفاذ إلى الصحف الورقية و قراءتها ، و أقيمت منتديات تواصلية و تفاعلية تمكن رواد الشبكة من التحاور و التفاكر في ما بينهم بشكل مباشر و في الزمن الحقيقي. وبرز مدونون و كتاب هواة ومحترفون يكتبون على الشبكة على نحو تفاعلي، بمعنى أن ما يكتبونه يتم إكماله بل تحويره من طرف القراء الآخرين. و نتيجة لذلك أضحت الكتابة جماعية ، تفاعلية و مفتوحة للجميع.. فما هي تداعيات هذه الأوضاع و هذه الوسائل الجديدة على الكتاب الورقي؟ هل ستحل الوسائط الرقمية التي أومأنا إليها آنفا محل الكتاب الورقي؟ و تفقده المكانة التي تبوءها عبر التاريخ؟ و هل ستضع حدا لدوره الريادي كحاضنة أساسية للفكر و التراث؟  و هل ستجزئ وسائط التواصل الاجتماعي كال Face book و s m s و Twitter ....عن الخطاب المهيكل ذي الصبغة الأدبية ؟ و هل ستحل منتديات الحوار عبر الشبكة chatting Rooms محل قاعات المطالعة في المكتبات؟ وبعبارة أدق هل هذه الوسائط تشكل خطرا حقيقيا على الكتاب الورقي ؟ الحقيقة أننا إذا ما تأملنا مفعول الوسائط التواصلية و الأوعية الفكرية المستحدثة على تلك التي سبقتها نجد أنه ليس مفعولا مقوضا و طاردا لها بقد رما هو مفعول مكمل و متمم و موطد لها .  فكما أن السينما لم تقتل المسرح لتحل محله بل قوته من خلال توسله لما جاءت به من تقنيات جديدة. و كما أن الراديو لم يقض على الصحافة المكتوبة بل تغذى عليها وأعطها زخما و دفعا أكسباها عنفوانا و حيوية ملحوظين. و كما أن التلفزيون لم تسبب اختفاء الراديو من المشهد الإعلامي بل على النقيض من ذلك ، استمدا من بعضهما قوة جديدة و فعالية مشهودة. فكذلك فإن الشبكة العنكبوتية و الرقمنة و ما تولد عنهما من وسائط مثل الأقراص المضغوطة وشرائط الفيديو و الشرائح والرقائق و الفلاشات و الكتب الإلكترونية و غيرها لن تشكل في نظرنا خطرا قاتلا من شأنه أن يهدد وجود الكتاب الورقي. صحيح أن هذه الوسائط تتوفر على مزايا عديدة لعل من أهمها قدرتها الاستيعابية و خفة وزنها بحيث يمكن للمرء أن يتوفر على قرص مضغوط أو ناقل إلكتروني Flash يتضمن عشرات الكتب و المشاهد بالصوت و الصورة. و بوسع المرء أن يتوفر في حاسوبه المحمول أو في جهاز تلفون iphone على العشرات من أمهات الكتب و القواميس و الأفلام و البيانات إضافة إلى العديد من التطبيقات الأخرى. و من مزايا هذه الوسائط كذلك إمكانية اختصار المسافات و عبور الحدود و تجاوز الرقابات القمعية الهادفة الى عرقلة حرية تدفق المعلومات. يضاف إلى هذا و ذاك أن الكتاب الإ لكتروني على وجه الخصوص هو أرخص في الكلفة و أسهل في النشر و التوزيع. و رغم كل هذه الاعتبارات فإن المصنفات الورقية كالمجلات و الكتب ما زالت تحظى لدى القراء و المثقفين باهتمام أكبر من الاهتمام الذي يولونه لنظائرها االرقمية.ذلك أن المصنف الإلكتروني مجلة كان أم كتابا يكتسي صبغة افتراضية شبه وهمية تفقده المادية التي تجعله ملموسا محسوسا يمكن اقتناؤه و حمله و إهداؤه عند الحاجة. و يوفرالكتاب الورقي لصاحبه نوعا من الصحبة و الخصوصية لا يوفرها له الكتاب الألكتروني. كما أن القارئ أميل إلى الاحتفاظ بعلاقات حميمية مع الكتب الورقية أكثر مما عليه الشأن بالنسبة للكتب الرقمية الإفتراضية. أضف إلى ذلك أن الكتاب الإلكتروني ما زال يتغذى على الكتاب الورقي حيث أن جل الكتب الألكترونية هي كتب ورقية محملة عن طريق الأنترنت ، كما أن الكتاب و المؤلفين أميل إلى وضع مصنفاتهم أولا على شكل كتب ورقية لما تحظى به هذه الكتب من اعتبار و لما لها من سلطة اعتبارية تضفي على مؤلفيها حظوة و تقديرا لا يتيحهما الكتاب الألكتروني. و خلاصة القول فإننا لانعتقد أن الوسائط الرقمية تمثل كما قد يتبادر إلى الأذهان خطرا كبيرا على الكتاب الورقي و لانظن أن من شأنها أن تشكل تهديدا لوجوده في الأمد المنظور ، و إنما الذي يعتبرفي رأينا خطرا محدقا بالكتاب الورقي وغيره من نواقل المعرفة يكمن في الأمية الأبجدية و الحضارية و في انكماش عادة القراءة و ضمور الرغبة في التعلم و الإطلاع و في تفشي الزهد في المعرفة و في ازدراء الكتب و اللهث وراء الكسب السريع و الهوس بالاستهلاك المحموم و عدم تثمين العلم و الإستهانة بالمثقفين و رواد الفكر.. فهنا يكمن الخطر المميت ليس فقط على الكتاب الورقي ولكن على كل أدوات و آليات المعرفة و على التطور الفكري و الارتقاء الحضاري. أ‌. محمد الأمين ولد الكتاب

3. ديسمبر 2012 - 22:08

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا