المُشْتَرَك الذَّوقي بين المتكلم و المتلقي / د.زين العابدين سيدي

عُرف عن العرب منذ جاهليتهم إلى يومهم هذا حب الشِّعر ، و ارتباطهم الوثيق به ، فهو يلازمهم في الحل و الترحال ، يترنمون به في الجهر و الإسرار ، و يتمثلونه مع أحزانهم و أتراحهم ، يتساوى في ذلك كبيرهم و صغيرهم ، أميرهم و مأمورهم ، عالمهم و جاهلهم ... باختصار هو الأنيس و الجليس الصاحب .

 لا عجب إذا سمعنا بعض الصحابة رضوان الله عليهم  يمجِّد الشعر تصريحا أو تلميحا ، فمن ذلك قول سيدنا عمر بن الخطاب " كان الشعر علم قوم ليس لهم علم أصح منه " ، و يقول عنه الأصمعي " و ما أبرمَ عمرُ أمرًا إلَّا تَمثَّل ببيت شِعر" ، قال ابن عباس " ما رأيت أروَى من عمر" يقصد رواية الشعر ، بل إنه رضي الله عنه سجَّل في بعض آرائه النقدية ذلك الأثر البالغ الذي يتركه الشعر في النفس و يتملك القلب ، و يأخذ بقياد صاحبه ، يقول : " الشِّعر جزلٌ من كلام العرب يسكَّن به الغيظ ، و تطفأ به الثّائرة ، و يتبلَّغ به القوم في ناديهم ، و يُعطَى به السَّائل"   ، و هذا سيدنا عثمان بن عفان يتمثل قول الشاعر الممزق في رسالة خالدة إلى سيدنا علي كرم الله و جهه ، حين أُحصر في داره يقول :" أما بعد فقد بلغ السيل الزُّبَى و وصل الحزام الطبيين فإذا أتاك كتابي هذا أقبلْ إِليَّ كنتَ عَلَيَّ أم لِي 

فَإِنْ كُنْتُ مَأكولًا فَكُنْ خَيْرَ آكلٍ ** و إلّا فَأَدْرِكْنِي و لَمَّا أُمَزَّقِ  " 

هذا هو المشترك الذوقي بين المتكلم و المخاطَب ،و الرسالة بين المبدع و المتلقي ، اللغة الشعرية الجميلة الفصيحة التي تؤدي الرسالة الشعورية و الإحساسية ـ إن جاز التعبير ـ بين طرفي التواصل و التخاطب .

من أجل ذلك لا غرابة أن يكون الشعراء على مرِّ التاريخ العربي زينة مجالس الأمراء و الكُبَراء ، و عزاء أحزانهم ، و جلاء همومهم و أدوائهم ، و مثار نيلهم و عطائهم ، يقول ابن قتيبة في كتابه الشعر و الشعراء حين تحدث عن فنيات التَّقصيد ، ".... فرحل في شعره وشكا النَّصَب والسهر، وسُرى الليل وحرّ الهجير وإنضاء الراحلة والبعير، فإذا عَلِم أنه أوجب على صاحبه حق الرجاء وذمام التأميل، بدأ في المديح، فبعَثه على المكافأة وهَزَّه على السماح " .

إنه السحر الحلال الذي يأسر الألباب ، و غاية الأسباب ، يهز أعطاف الحاكم و يثير أشجانه ، و يكشف عطفه و حنانه ، بل هو الضمير الحي و الرقيب المُكاشف ، و الوازع المُساعف ، يقول أبو تمام : 
 
فقد هَزَّ عِطْفَيْهِ القريضُ تَوَقُّعًا ** لِعَدْلِكَ مُذْ صارتْ إِلَيْكَ المَظالِمُ
و لولا خِلالٌ سَنَّها الشِّعْرُ ما دَرَى ** بُغاةُ العُلا من أين تُؤْتَى المَكارمُ

و من المواقف الخالدة ما سُجِّل عن عبد الملك بن مروان يوم خرج للغزو و قد تبعته زوجه عاتكة بنت يزيد بن معاوية ، و قد أشجاها ذهابه إلى الحرب فلم تزل تبكي و تكلمه في ترك الغزو حتى رقَّ لذلك فرجع ليُسليَها بعد أن وصل الباب و قال : " قاتَل الله كثيرا كأنه كان يَرَى يومَنا هذا حيث قال :

إذا ما أرادَ الغَزْوَ لمْ تَثْنِ هَمَّهُ ** حَصانٌ عَلَيْها نَظْمُ دُرٍّ يَزِنُها 
نَهَتْهُ فَلَمَّا لَم تَرَ النَّهْيَ عاقَهُ ** بَكَتْ فبَكَى مما شَجاها قَطِينُها

  و ليس أهل موريتانيا بِدْعا من كل ذلك بل هم أَشَطُّ الناس في حب الشعر و الترنُّم به ، و تمثُّله في مجالسهم ، و استشهادهم به في أحاديثهم اليومية ، بل إنه لغة التجسيم و التمثيل ، و الترجمان الصادق للأحاسيس و ما يخالج النفس و يعتمل بداخلها ، و لا عجب إن عُرفوا في مشارق الأرض و مغربها " ببلاد المليون شاعر " .
إلا أنهم للأسف منذ زمن بعيد توقَّفت لغة الشِّعر بينهم و من يعنيه الأمر نظرا لعدم وجود ما أسميه المشترك الذوقي ، أو الأرضية المشتركة بين الحاكم والمحكوم ، بل ربما جَنَتْ عليهم لغتهم في بعض الأحايين نظرا لعزوف ولي الأمر عنها و عدم تقديره لها، فإذا كان :

لسانُ الفتى نصفٌ و نصفٌ فؤاده *
فإن النصف الذي يعبِّر عن الفؤاد و الأفكار عربي مبين ، لكن متلقيه مستعجم ، و ضاعت الرسالة بين الاثنين .

استبشرتُ خيرا حين سمعت لسانا فصيحا ، يشنِّف الأسماع ، و لغة تأسر الألباب ، و استشهادات قرآنية و شعرية ، تصل إلى متلقيها دون عناء أو تكلُّف ، و كأنما أراد فخامته أن يقول لعامة الشعب إن عهدا من التآلف و التجانس و التواصل قد أظل البلاد ، و أنَّ آلامكم و أحزانكم و ما تحسونه من غوائل و مصائب هي مصائبنا و آلامنا ، بل إننا كنا نتألم لكل ذلك و تتفطر أكبادنا قبل تولينا الأمر ،  و لسان الحال يقول :
يا نائحَ الطلحِ أشباهٌ عوادينا **نَشجَى لِواديكَ أم نأْسَى لوادينا؟
ماذا تقُصُّ علينا غير أنَّ يدًا ** قَصَّتْ جناحَكَ جالتْ في حواشينا   

فرحتُ كما فرح الشعب بهذا الرصيد الذوقي الوافر الذي يتمتع به السيد الرئيس ، و كلي ثقة أنَّ من يعرف قول عروة بن الورد و غيره من المضامين الأخرى :
اُقَسِّمُ جِسْمِي في جُسومٍ كثيرة ** و أَحسو قَراحَ الماءِ و الماء بارد 

لن يَرِفَّ له جفن و لن يسعد أو يهنأ بمتع الحياة و هو يرى جماعات المتسولين ، و قد غصت بهم الطرقات ، و يسمع صيحات الشباب العاطلين و قد ازدحموا أمام القصر الرئاسي و هم يرفعون اللافتات ، و تصله شكاوى المظلومين ، و يرى بأم عينه ، أو من خلال وسائل الإعلام الطوابير الممتدة للمرضى و هم يشكون ضيق ذات اليد و العجز عن شراء وصفة طبية ، أو تحمُّل نفقات عملية لفلذة كبد يصارع الموت و ما باليد  حيلة .... و فوق ذلك استبشرنا خيرا بولاة أمر يحفظون القرآن الكريم عن ظهر قلب و يلازمهم قوله تعالى " فلا اقتحمَ العقبةَ و ما أدراكَ ما العقبةُ فكُّ رقبةٍ أو إطعامٌ في يومٍ ذي مسغبةٍ يتيما ذا مَقربَةٍ أو مِسْكينا ذا مَتْرَبَةٍ"، و لا غرو أنهم يعرفون حق المعرفة قوله صلَّى الله عليه و سلم "عودُوا المريضَ و فُكُّوا العاني " ، و أغلب أهل هذه البلاد يعانون و يشكون العَنَتَ و نوائب الدهر . 
لا نحتاج إلى إعطاء توصيات ؛ و الضمير الحي تقرعه أجراس الموروث الثقافي و المعرفي ، و كفى به ناصحا و واعظا ، الشيء الوحيد الذي نلفت الانتباه إليه هو وضع الأشخاص المناسبين في الأماكن التي يملؤونها حقا ، تسمو بهم المناصب و لا يَسمُون بها ، مع  تطبيق أفضل المعايير للإنجاز و رسم الخطط الاستراتيجية الواضحة و التقييم المستمر ، وضع الأهداف القابلة للتحقق و القياس ، غير ذلك مضيعة للوقت ، و قد تجاوز الزمن و الواقع العشوائية في كل ذلك ، و لم يعد من المقبول التمييع و الميوعة و نفخ الكلام و العبارات ، و لغة " المشاريع المدرَّة للدخل ، و ستضمن هذه المشاريع حياة كريمة ، و ستقضي هذه المشاريع و المؤسسات على البطالة ......" ، هذا كله هراء ، لا بد من وضع خطط و أهداف ، و بيان الوسائل و الآليات الكفيلة لتحقيق ذلك ، مع استخدام الأرقام الدقيقة ، و المتابعة الحرفية ، هذه الأمور بسيطة جدا مع و جود الإرادة ، و نظن يقينا أنها وُجدت و لله الحمد .

كل ذلك سيعزز الثقة بين الشعب و الحكومة بل إن أي إشارات صادقة من الحكومة في هذا الاتجاه ستكون مدعاة للتآزر و التكامل بين الطرفين .

توصيتنا لإخوتنا في الوطن : صبرا فإن الأيام حُبْلَى بالإنجازات ، و قطار البناء على السكة ، و لولا أن هذه الجائحة ـ رفعها الله ـ بطَّأت من النمو على مستوى العالم لكنا قد قطعنا شأوا بعيدا .
 و إنَّ غدا لناظره قريب ، و القوس بيد بارِيها .

27. مايو 2020 - 1:07

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا